لم يخجل وهو يتفوّه بها، لم يشعر أنه لمّا يعبّر عن شعوره، بأنّه ينتقص من قدر بقية صحبه، أعلن وصرّح بكل وضوح، دون أن تُحدث صراحته تلك، خدشًا في علاقته مع غيره من الصحاب.
في الحقيقة كانت إجابته صلى الله عليه وسلم، جاهزة من قبل أن يُسأل، وما علمنا بذلك إلا لسرعة جوابه، دون أن يطلب وقتًا ليفكر أو يستخير! فالمعلوم لا يمكن اخفائه أو مداراته!
كأنه كان فداه أمي وأبي، ينتظر أن يُسأل، ذلك لعلمه بأنه لن يحتار، لن يستغرق الكثير من الوقت، وما دل هذا إلا لصفاء نفسه، لمشاعره المنتظمة، للأولويات الواضحة جدًا في قلبه، لا ينتظر الموقف والتجربة ليرتّب قلبه، لا ينتظر أن يُهزم أو يُخذل ليعيد ترتيب حساباته والناس في قلبه، هو يسير بتوفيق الله، يسير بوجهة محددة وواضحة، من أجل ذلك كله جاءت إجابته لما سُئل عن أحب الناس من الرجال، فكان جوابه:
قال عمرو بن العاص : يا رسول الله ، أي الرجال أحب إليك ؟ قال : ” أبو بكر ” .
ما يحدث مع الكثير منا اليوم، اضطراب العلاقات على جمالها، وصفائها، نسعى لإرضاء الجميع، والنتيجة: لا وجود للرضى! الكثير من الملابسات والتشويش مع من نحب، ولو كنا لسيرته متأملين، لوجدنا حُسن تعامله مع جميع أصحابه عليه الصلاة والسلام، كل من يحبونه، المحيطين حوله، يعلمون أنهم لا يمكنهم أن يسبقوا أبو بكر، يعلمون أن أبا بكر أولًا، ثم يأتي البقية، الجميع يعلم بأنه بوجود أبا بكر، فلا صوت ولا كلمة ولا رأي يقال دونه.
وفي المواقف، والأحداث، تظهر صدق المشاعر من زيفها، يأتيك الموقف فتجد نفسك مضطرًا اضطرار المُحب لأن تُفصح، لأن يعلم من حولك بمن سخره الله لك، دون افراط ولا تفريط، الشعور باتزان ينتج أطيب الثمر، وأحسن العمل، والغرق بالشعور والاكتفاء به، أول الهلاك!
وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر ، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة“
تمرّ علينا مواقف أحيانًا، مع أصدقائنا، نشتبك، يقع سوء الفَهم، لا طريق يرضي الطرفين، نتوهم بأننا أول اثنين نختلف! وما أن تعود للسيرة، حتى تجد جميل الرفقة، وحسن التدبير في العلاقات في علاقته مع حبيبه أبو بكر رضي الله عنه تحديدًا ومع بقية صحبه الكرام رضوان الله عليهم.
أطهر الصداقات وأصدقها تلك التي تمدّ يدها لتعينك، تقوّم اعوجاج فيك ولو لم ترضَ، أجمل الصّحب من يكن عونًا لك، ويد ثالثة، وعكازًا تتكئ عليه؛ لئلا تسقط، من يفرش لك قلبه، ليكن لقلبك، بساطًا، يأويك من حرّ الدنيا، ومن لهيب الأقدار.
وقال محمد بن جبير بن مطعم : أخبرني أبي أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء فأمرها بأمر ، فقالت : أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك ؟ قال : “ إن لم تجديني فأتي أبا بكر “
الصديق الحقيقي هُو من يكن معك دون أن تطلبه، يعلم ما خطبك دون أن تتحدّث، من يوصلك بالله، يعيدك لجادة الطريق كلما انزلقت وانحدرت، من يخترع ألف سبب ليوصلك، ليراك، من يعلم محبوباتك فيقدمها بين يديك.
وأخرج البخاري من حديث أبي إدريس الخولاني ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : كان بين أبي بكر وعمر محاورة ، فأغضب أبو بكر عمر ، فانصرف عنه عمر مغضبا ، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له ، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه ، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء : ونحن عنده ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” أما صاحبكم هذا [ ص: 13 ] فقد غامر ” . قال : وندم عمر على ما كان منه ، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ، قال أبو الدرداء : وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول : والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” هل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ إني قلت : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ، فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت ” .
أصدقاؤنا اليوم، من يشاركونا أعسر الأقدار، قبل أيسرها، هم خلفاؤنا الحقيقيون غدًا، خلفاؤنا في رسالتنا في هذه الحياة، هم من يُكملون مشوار ابتدأناه، لما يأخذنا الموت، مَن غيرهم مَن سيقلب الصفحة التالية لما رغبنا في اتمامه، ليكون ختام مشاريعنا وأمانينا، بتنفيذ صحبنا؟ من سواهم من يهيئهم الله ليعتلوا منبرًا كان لنا، فلما تركناه، أحسنوا قيادته وتفعيله، نموت ونحيا بأرواح أصحابنا، تحيا مبادئًا سعينا لأن ننشرها، وقيمًا لأن تترسخ، يأتوا من بعدنا ليحملوا مشاعل النور، ولو لم يكن من دأبهم، فحتمًا ولا ريب ستأتي تدابير الله ليكونوا أهلًا لما استخلفهم الله عليه، سنموت ويحيا صحبنا حياتين، حياتهم الخاصة وحياتنا التي أودعها الله فيهم بعد رحيلنا.
ماذا فعل الناس بعد وفاة قدوتهم وحبيبهم، من كان العين التي يبصروا الدنيا من خلال عينيه، ما كان الناس فاعلون لولا كلمات قالها أبو بكر الصديق؟
اقرأ الحديث جيدًا، لتستوعب ما تفعله كلمات الصحب الصادقة، يلقيها لا يلقي لها بالًا، لصدقها، تثمر في نفوس المستمعين، فيثبت الناس، ويكتب الله للرسالة بأن تتم، حتى بعد وفاة صاحبها ومؤسسها.
قال : وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا . قال : ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال : ثم تلا هذه الآية : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين.
قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ؛ قال : وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم ؛ قال : فقال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
هذه التدوينة لصحب قلبي الذين أحب، والذين يعلمون جيدًا أن الكلمات ما كُتبت إلا لأجل قلوبهم، أُحبكم
*جميع الأحاديث في هذه التدوينة من كتابي سير أعلام النبلاء+ السيرة النبوية لابن هشام
2 تعليقات
قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً…”
يا لقدر أبا بكر!
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه وكل من أعانه وكل من أحبه وكل من دافع عنه وكل من نقل كلمةً عنه وكا من عمل بسنته وسلم تسليماً كثيراً .. وأرضى اللهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين وجازهم خير ما جزيت أحداً من العالمين.