قد يظنّها بداية شجاعة أو نجاح، فتجدهُ يُقبل على ما قررّه بينه وبين نفسه غير آبهٍ بعاقبةِ الأمر، يُعلن خسارته مع أول موجة تصفعه! يسقط، وربما جرف الموج عدّته التي احتمى بها.
كانت هذه عاقبته! وعاقبة كل من تصدّى للتيار وسار عكسه.
كثيرةٌ هي المواقف التي تُحتِم على الإنسان أن يكون فيها بين أمرين القبول والرضا، أو الرفض، أما الرضا فليس هو بموضوعنا، لكنّنا عن الرفض نتحدث.
على أن فكرة الرفض مشروعة في أحايينٍ كثيرة، وهذا مما لا شكّ فيه، بيد أنَّ الخلاف دومًا في الطريقة والأسلوب، مثله تمامًا لما يقال: “ضيّع حقه بيده” والمعنى أنه لو صبر لظفر! لكنه استعجل – ولا يزال حق الرفض قائمًا- لذا جاءت النتيجة مغايرة والشحناء والبغضاء حاضرة.
وحتى ينجو المرء من كلّ هذ المزالق والمنعطفات عليه ألا يواجه التيار، بل يداريه ويسير معه مع كل انحناءاته، حينها حتمًا ولا ريب سيجد المخرج الآمن الذي يوصله لمرماه ومنشوده.
وكما قيل: “داوِ الناس بالمُداراة“، وإنّ هذا لعمري فن لا يتقنه إلا الحَذِق، ومن تعلّم مُداراة الخلق، دون أن يبخس حقه، فإنه بلا شك قد أكسَى قلبه “سُترة النجاة”.
والمُداراة تلك صالحة بين ذوي القُربى والرَّحم، بين الصَّحب والجيران، وبها يرتقي ويتقي، يرتقي منزلة عند الناس، ويتقي بقلبه من مفاسدِ شتّى.
لعلّي اليوم أُدرك لمَ حظيت والدتي – رُزقت برّها- بجموعٍ غفيرة من الأحبّة، فإن أحد أهم الأسباب الذي جعل منها امرأة طيبة المعشر هو لزومها للمداراة ولين الجانب، وما أكثر ما كان الله معها، ولا يزال بفضله.
وعلى ضرورة المُدارة إلا أن الحذر من الإفراط فيها واجب! إذ أن صاحبها قد يكون عرضة للاستغلال، فلا إفراط ولا تفريط، وبتوازن المرء تستقيم دنياه.
ومن خيرات المداراة أن تجعل للمرء القدرة على جعل الباب خلفه مُواربًا لا مُوصدًا، الأمر الذي يتعذّر حدوثه مع غيره! فربّ العمل صعب المراس أنّى له أن يجعل الباب بينه وبين موظفه مواربًا؟ وأيسر الحل هو إنهاء العمل معه! لكن الفطن من دارى فترك خلفه أبوابًا مواربة، حتى إذا ما دعته الحاجة للعودة، يكون خط العودة مهيئًا.
منتهى القول: تجاوز، اصفح، غُض الطرف، دارِ، لكن لا تبِع دينك وقيمك بمُداراتك! ولا تكن كالذين قالوا: “”دارِهم ما دمتَ في دارهم، وأرضِهم ما دمتَ في أرضهم”، تذكّر أنَّ لكل قاعدة شواذ كُن بين هذا وذاك، والحمدُ لله ربّ العالمين.