عن فاجعتي بتعبِ أمي.. أكتب ..
الساعة ١١:٣٠صباحًا من يوم السبت
أجلسُ في مركاز والدتي، لطالما كان مركازها ذا مكانة استراتيجية رهيبة! يطلّ على أرجاء البيت، ولعل المركاز عاديًا في نظر غيري، لكنه لم يكن كذلك ليلة واحدة! كم أسعدنا مركازها الذي يضجّ بحنانها علينا وعلى أحفادها. .
بدا الصباح هادئًا، إلا من صوتِ اسلام صبحي وهو يقرأ آيات من سورة العنكبوت- السورة التي أحب.. أفتح جهازي المحمول لأنتهي من تحضير دروس الروضة، يدق هاتفي، “جنتي” يتصل بك، أمدّ رقبتي لأرى والدتي وهي جالسة على سريرها- بالمناسبة المركاز مطل على غرفة والدتي أيضًا!.
وجدتها تضع أداة قياس الأكسجين والأداة تشير للرقم: ٩٧
- قلت: “ما بكِ؟”
- فأجابت: “أحس بشوية كتمة.. شوفي الأكسجين نازل”
- قلت: ” الرقم طبيعي لحالتك ياماما، يمكن من الكحة أو من ألم عضلاتك.. استني شوية وإذا ما اتحسنتِ كلميني”
الساعة ١١:٤٨ صباحًا
تعاود أمي الاتصال بي، لكني هذه المرة لستُ مستبشرة! يا رب لطفك
نظرت لأصبعها لأرى لأي مستوى وصل الأكسجين، “٩٤” أخبرتها بأن تهدأ – كما تعبت في المرتين الماضية للأمرِ عينه- وفور خروجي من غرفتها، هرولت نحو أخي إسماعيل – صديق أزمات أمي.
- “إسماعيل ماما تعبانة لازم الآن تروح الطوارئ”
- – “طيب طيب”
عدتُ لها لأجهزها للخروج، ذكرتها بالتعليمات: تنفسي ببطء، كلميني بالإشارة لنحفظ الأكسجين..
” ربنا حيسلمك يا ماما زي دايمًا إن شاء الله”
ركبنا السيارة بمشقة بالغة، حتى وقوفها من الكرسي المتحرك لمقعد السيارة بات كمن يتسلق الجبل..
جلستُ في المقعد الخلفي لوالدتي، مددتُ يدي نحو كتفها أمسحُ عليها وأقرأ جهرًا..
يسرع أخي في القيادة، قررنا الذهاب لأقرب مستوصف، علمنا أنها لن تصبر للمستشفى، الشارع مزدحم، الشمس حارقة، قلبي لم يعد في مكانه..
خلعت أمي نظارتها الشمسية، قدمت نفسها للأمام، علمتُ أن مخزون الأكسجين يحتضر بداخلها،
بدت أمارات التوتر جلية عليّ وعلى محيّا أخي، لكني لزمت ذكر الله جهرًا ” لا إله إلا الله، يا رب سلم، يا رب سلم”
ثم بدأت تنتفض، يندفع جسمها نحو الباب، ثم تعود بكامل قوتها نحو المقعد، ثم تتقدم للأمام، وكأن حادثًا أصابنا، وصلنا المستوصف، استدعى أخي الطاقم وهو يصرخ ويجري، وبسرعة فائقة قدم نحونا ٤ أشخاص..
قبيل قدومهم – وقد كان بتوقيت قلبي عامًا كاملًا وليست دقائق معدودة- نزلت من السيارة، خلعتُ طرحة أمي، مسكتُ صدرها، يداي ترجفان، لا أشعر بأي شيء، وقع ناظري على قارورة ماء قديمة في السيارة، سكبتها على وجه أمي، وشيئًا على صدرها، وأمسح عليها، أناديها: ” ماما خليكِ قوية زي دايمًا، يا رب سلّم يا رب سلّم”
ثم قدم الطاقم، ولما رأوا اضطرابها وتخبطها يمنة ويسرة وشخوص بصرها، صرخت الطبيبة: ” على المستشفى فورًا”
تيقنتُ أن الأمر جلل، يقود أخي السيارة بسرعة جنونية، يزداد تخبط أمي، ينسكبُ الماء كاملًا على هاتفي دون أن أشعر، لا أشعر بجسدي، أشعر بأني مجرد رأس، شعور غريب وعجيب!
وصلنا الحمدلله، أصرخ في وجه أخي، اذهب ونادِ الدكتور، لأجد أمي تلفظ زفراتها الأخيرة، أضرب خديها: ” ماما ردي عليا.. ماما ردي عليا” تحملق أمامها وكأن شخصًا قد خنقها، أتجاهل المنظر .. أكلمها كما أكلم أطفالي: ” ماما شوفي شوفي الدكتور جا.. قومي” ترتمي أمي على المقعد الخلفي، دون حراك
يسرع أخي والممرض بحملها كمن يحمل جثة ميتة نحو الكرسي المتحرك
أحمل طرحتها وحذاءها وأركض خلفهما، لا أدري لمَ حملتُ أغراضها مع علمي بأنها لن تحتاجها، لعلي احتجتُ أن أشعر بأنها ستفيق، ونعود باكرًا للمنزل.. لكن شيئًا من هذا لم يحصل..
أصرخ بأعلى صوتي في الاستقبال، أين الطبيب؟ يركض الأطباء ولم أتبين عددهم، على الأرجح أنهم سبعة! يدخلونها لغرفة الإنعاش القلبي الرئوي، أرى الجهاز على الحقيقة لأول مرّة في حياتي، دفعتني الممرضة بهدوء وأغلقت الباب..
عدتُ للوراء، لأجد أخي يتصبب عرقًا، آخذ منديلًا، أمسح عرقه، أضع يدي على صدره ” ربنا حيسلمها.. روح قفّل السيارة”.
يُفتح باب الغرفة ويغلق.. ولا يزال شعوري بأني مجرد رأس دون أطراف يسري قلبي!! أروح وأجيء، كمن لا يملك وجهة واضحة.. يُفتح الباب يخبرونا بأن والدتي فقدت وعيها، ولا بد من تنويمها فورًا في العناية المركزة..
أوقع على الأوراق ويداي لا تتوقف عن الارتجاف.. الخط متعرج، لا أفهم شيئًا.. أين أنا؟ ماذا يحدث؟
أسترجع صورة أمي الأخيرة ..
تعود بي ذاكرتي للبارحة، ذهبنا للتسوق، وقد كانت سعيدة مبتهجة، لم تشتكِ ألمًا ولا تعبًا إلا ما اعتادت عليه – عظّم الله أجرها، يا ربّ ما الذي حدث؟
يتكرر علينا السؤال من قبل الأطباء حول ما الذي حدث لتفقد وعيها؟ نكرر إجابتنا المحيرة: شعرت بكتمة فقط!
ثم خرجوا وهم يدفعونها بالسرير، وددتُ لو أغطي شعرها، لطالما كانت تحبّ الستر والحشمة، نركض خلفهم أنا وأخي، نذهب لمكان الأشعة، نلاحقهم من مكانٍ لآخر، نشعر بالتيه وسرير أمي هو الأمان حينها..
ينتهي بنا الأمر لوصولنا للعناية المركزة، يرفضوا دخولنا لحين تجهيزها في الغرفة، نجلس على الأرض أنا وأخي، يبكي أخي بحرقة، لعلها المرة الأولى التي أرى فيها عيناه الزرقاوتين التي أحب تبكيان بدموع لا تتوقف، أطمئنه وقلبي بحاجة لمن يسكّنه..
يستدعينا طبيب العناية، نبرته هادئة.. يبدو أنه متمرس ليكون طبيب عناية! هكذا حدثتُ نفسي
قال: طيب بحكم أنكم أهل المريضة من حقكم أن تعرفوا ما حدث، توقفت وظائف القلب ……….
ثم توقف الزمن، أُغلقت أذناي، أرى شفتيه تتحركان ولا أسمع ما يقال، أشعرُ بدوار، أشعر بأني أفقدُ وعيي بالتدريج.. وضعتُ يداي على الاستقبال لأثبت جسدي، ضعفي يعني انهيار أخي الأصغر.. يا رب ثبتني
ثم سمحوا لنا بالدخول عليها..
عيناها مفتوحان
أجهزة كثيرة تحيط جسدها
كم أمقتُ أصوات أجهزة قياس القلب والضغط ووو…..الخ
جهاز التنفس الصناعي يخترق فمها
وضعت يدي على صدرها، ناديتها: “نجوحة”
أغمضت عيناها..
أمسكتُ بيدها.. إنها باردة.. أحكمتُ تغطيتها، ثم انهمرتُ في البكاء.. بكيتُ بصوت وبدموع بالغين…
خرجتُ وأخي من العناية، وتركنا قلبينا هناك …
٧/٢/١٤٤٤هـ
*
حالة والدتي مستقرة إلى حدٍ ما الحمدلله الآن، شكرًا لكل من ساندنا بالدعاء والزيارة، شكر الله مساعيكم
10 تعليقات
الحمد لله ❤️
يارب دثرها بالأجور و أملأ قلبها بالصبر و جمّلها بتمام العافية واجبر قلوبكم .
حبيبتي إيناس … تعجز كلماتي ان تصل لمستوى احرفك الرائعة -تبارك الرحمن-
حقيقةً وصفك للوضع الذي مررتِ به مع والدتك حفظها الله وشفاها ، اعجز عن وصفه ..
دموعي انهمرت عند وصفك لها عند دخولكم عليها في العناية والاجهزة تحيط بها
تذكرت والدتي رحمها الله بنفس المنظر الذي لا يغيب عن ذاكرتي ..
الحمدلله على كل حال
والحمدلله على سلامة ماما الله يحفظها لكم ويطول بعمرها على طاعته وهي بكامل صحتها وعافيتها …
يا حبيبتي يا إيناس :((( ..
الله يبشركم بعافيتها و صحتها ، أزمه و تعدي بإذن الله و ترجع بيتها وهي بكامل عافيتها بأمر الله 🤍🤍
تاهت الكلمات ..
وانهمرت الدموع باكية ..
خالتي الحبيبة نجاح شفاك الله وعافاك
و امدك بالصحة والعافية ..
حفظك الله لبناتك واولادك وكل أحبابك
اما غاليتي انوسه ..
مؤنسة القلوب دائما ..
حباك الله قلما رائعا .. صادقا.. محبا .. مؤمنا ومتوكلا على الله ..
كالعادة تبهريني بجمال روحك ..
روعة عباراتك…
صدق احساسك ..
ايمانك وثقتك بالله ..
لاحرمني الله من ابداعاتك ..
و يااااارب قريبا يفرح قلبك وقلب اخواتك واخوانك برجوع الغالية بالسلامة التامة يارب
ما في أصعب من أن تحاول أن تتقوى على ضعفك وتبدو صامدا وانت منهار إلا أن رحمة الله بنا واسعة ورحمة الله وشفائه قرييييب بإذن الله
اللهم أسألك إيمانا يباشر قلوبنا ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ماكتبت لنا رضاً بما قسمت لنا
يارب سلم يارب سلم يارب سلمها من كل مكروه يصيب قلبها يارب سلم جسدها من الالام يارب ارح روحاً متعبه واجرها وعافيها يارب يسلم وترجعلكم بالسلامة ❤️ يارب
اللهم انزل عليها الشفاء من حيث لاتحتسب وهون عليها ألمها
الحمدلله على كل حال
يارب اشفيها وعافيها واكتبلها عمر طويل بصحه تامه يارب
هيه اطيب قلب واحن واكرم انسانه عرفتها.. ماشاء الله تبارك الله
جبر الله قلوبكم بالشفاء العاجل ❤️