تنزل بالإنسان النازلة في نفسه أو أهله، فيخلع الأمر ليتعامل معها بشكلها الظاهر، هذا الذي ما أكثر ماكان يعظ الناس ويذّكرهم بأن الحياة فتنٌ وبلايا، كثيرًا ما كان يسير بينهم ناصحًا ومُعينًا، ماباله اليوم أصبح لما فُتن به أسيرًا ورهينًا؟ تراه حصَر كل عباداته وخصّص كل دعواته لهذه النازلة! ضيّع حقه وحق الله فيما أصابه، رغم أنها ليست النازلة الأولى التي تُصيبه، لكنه الإنسان! يشعر بأنها الأولى من نوعها، يجد مصيبته في مأكله ومشربه، في قعدته ورقاده، معللًا لنفسه بأن: غدًا ينجلي الهم، فلا الهم انجلى، والعمر قد مضى!
تمثّل الحياة بكل تداعيتها لغزٌ كبير ومحيّر، حتى عند أصحاب العقائد والإيمان، ولا يكاد الواحد منا يفلح بإيجاد تفسيرات واضحة تّيسّر عليه إتمام الدرب إلا من كتاب الله وسنته، وكاذب من وجد في غيرهما النجاة، يقول تعالى: ﴿قُلۡ إِن كَانَ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ وَعَشِیرَتُكُمۡ وَأَمۡوَٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةࣱ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَاۤ أَحَبَّ إِلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ۦوَجِهَادࣲ فِی سَبِیلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَایَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ [التوبة٢٤]
العشيرة الجماعة المجتمعة التي ترجع إلى نسب وعقد واحد أو ود كعقد العشرة وعشيرة الرجل أهله وقرابته الأدنون وهم الذين يعاشرونه ويتكثر بهم سواء بلغوا العشرة أم فوقها
والمراد بالمساكن المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم ويرون الإقامة إليها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله ومن الجهاد في سبيله فقعدوا لأجل ما ذكر من الأمور الثمانية أو لأجل حبها والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادئ المحبة وموجبات الرغبة فيها، وأنها مع ما لها من فنون المحاسن بمعزل من أن يؤثر حبها على حبه تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله عز وجل: (ما غرك بربك الكريم) والمراد بالحب الاختياري دون الطبيعي وهو إيثارهم وتقديم طاعتهم لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخد عليه ولا يكلف الإنسان بالتحفظ عنه.
فتح البيان
ملّخص المحبوبات ثمانية: (الآباء، الأبناء، الإخوة، الأزواج، العشيرة، الأموال، التجارة، المساكن) فالوالدين فتنة وكذا الأبناء والإخوة، حتى الزوج ذلك الذي عظُم حقه في الدين لهو فتنة! ذلك البيت الذي تتفنن في تزيينه وقد بالغت وأسرفت، تلك التجارة التي أسهرتك أيامًا وليالي، أموالك لطالما حرصت على ادخارها واستثمارها… حقيقة الأمر أنه: أينما ولى الإنسان قلبه، فثمّة فتنة تتربص به! خاسر من ظنّ أنه بمأمن منها، والكيّس من فقِه سنّة الله في كونه، وأعني بسننه بدءًا من فقدانك لوظيفتك، صعوبة حصولك على ما تشتهي، جهادك للبرّ وصلة الرحم، كلها بلاءات، والبلايا سُنن ياصاحبي.
وإن الإنسان في غمرة لعبه ولهوه في هذه الدنيا، بحاجة لمن ينتشله ليذكره بحقيقتها، لئلا يركن لفرحٍ ولا يستسلم لحُزن، ليحذر المسكين أن استمرار غفلته عن مراد الله، فسيكون محبوبه هو رأس عذابه! وهذا ما أخبرنا الله به (فتربصوا)..
(فتربصوا) أي فانتظروا (حتى يأتي الله بأمره) فيكم وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين مهمات الدنيا وجب ترجيح الدين على الدنيا ليبقى الدين سليماً (والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي الخارجين عن طاعته النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه.
فتح البيان
هذه التدوينة تذكرة للغارقين في أحزانهم، للظانين أنهم الوحيدون من يعانون بفقدان محبوباتهم، هونًا عليكم، كلنا في الهم نشترك، والفائز فينا من قدّم محابّ الله على محابّه، لا تستمر في صرف وقتك وجهدك في أمرٍ ليس لك من أمره شيئًا، إنّ الأمر كله لله.
ولأن الحياة تفاجئنا بالصدمات المتتاليات، ومن سلِم في فتنة نفسه، وقع في فخ فتنة أهله! لا بأس.. من مِنّا استطاع أن يُحسن العمل طيلة عمره؟ فلكل جواد كبوة، ولذا كان من دعاءه عليه صلوات الله وسلامه عليه: “يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك”.
واحرص دائمًا أن يكن قلبك من الصفا، كالحجرِ الأملس، الذي لا تشوبه شائبة مهما تجمّعت حوله الأتربة، ولا يعلق به شيئًا؛ لأنه أملس، فلا شيء قادر على تغيير خواصه وتلويثه، واحذر من أن يكن قلبك كالكوز مُجخيًا، أي: كالكأس المائل أو المنكوس، يسكب ما في داخله من الإيمان بقدر ميوله إلى الهوى، وانتكاسه عن الحق، كما يسكب الكأس ما فيه من ماء بقدر ميوله وانتكاسه، كما يقول د. إبراهيم الحقيل.
قال حذيفة: سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تُعْرَضُ الفتن على القلوب؛ كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًّا؛كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه)
اللهم جنّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونجّنا برحمتك
2 تعليقات
لُطف اللطيفِ بخلقهِ لا يختفي
بجميله نُكفى الهموم فنكتفي
هو حسبنا كم حادثٍ ضقنا به
ذرعًا ففرَّج كربه اللُطف الخفي
وما أكثر الكبوات!