الرئيسية إينَـاسِّيات فَتزَّل قدمٌ ..

فَتزَّل قدمٌ ..

بواسطة إيناس مليباري

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد التفاتها نحو من كان يقودُ السيَّارة بجوارنا، قالت: ” كل حاجة كنا نشوفها في أمريكا، سارت عندنا“! لا أدري ما الآلية التي تستخدمها الأُمهات للنقاش في خضمّ احتداد شعورهنَّ، كيف لهنَّ القُدرة على تبيانِ الحق بحب لا بانفعال، برويَّة وسداد رأي، لا بحماقة اللحظة!

اللهمَّ أرِنا الأشياء كمَا هي

– ابن الجوزي

أتساءل عن حال ذاك الذي صفَّف بضاعته، مؤونته التي أفنى عمره لجمعها، أحسن ترتيبها في طاولةٍ رُبما ذات أرجلٍ أربع، ثمَّ ودون أن يشعر، أن يُدرك، دون أية مُقدمات، تنزلق إحدى أرجل طاولته … تِباعًا ستنهار كل مصفوفاته، سيتبع انزلاق الرجل، الكثير من الخسارة، الكثير من السقوط، انهيار أشياء (كانت) عزيزة عليه!

( وَلَا تَتَّخِذُوۤا۟ أَیۡمَـٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَیۡنَكُمۡ فَتَزِلَّ قَدَمُۢ بَعۡدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا۟ ٱلسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمۡ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَكُمۡ عَذَابٌ عَظِیم )

النحل: ٩٤

أمَّا البضاعة فهي إيمانك، قلبك بما فيه، والطاولة هي سيركَ غير ذِي عوجٍ في الحياة، طريق الحق الذي يثبِّت أركان قلبك، وأمَّا انزلاق الرجل، فتلكم الهَالكة! زيغك عن الجادَّة، انحرافك عنه، أدَّى لنتيجة للزَّلل، بعد أن كنتَ من الهلاكِ من الآمنين، غدوت فيه!

لنعُد للبداية، بداية الأمر، كنتَ سائرًا في طريقه المستقيم، كيف بدأ الزَّلل؟ أعِد قراءتك للآية، كلَّ ما في الأمر، أنك تلاعبتَ بأيمانِ الله! متى ما شئتَ وفيَّت بها، ومتى ما مللت، نقضتها! كانت البداية من قولٍ قد لا يسمعه أحد من حولك! لكنه كان سببًا في ذلكم الزَّلل.

وماذا يُرجَى بعد الزلل؟ كل أمر سيء! كالعقدِ إذا انفرط، أنَّى للواحد منا أن يلمّ شتاته؟ اليوم تفتننا الدُّنيا بزينتها، وزُخرفها، تفتننا دون أن نسعى لها، نركضُ هربًا منها، لكنَّها ما تفتأ أن تُلاحقنا حتى تحقق مرادها، أن نزلَّ، وما بعد الزلة حديث ولا قول يقال!

تأتي الدُّنيا لتُفتت كل مُعتقد كان فيك قويًا، لتجعل من الراسخات الثوابت، أعمدة مهزوزة بالكادِ تقفُ مُستندة على غيرها؛ لئلا تنحرف فتنهار. تقوم من نومك، لتجد الحال تغيَّر عمَّا ألفتهُ بالأمس، تظنّ بأن الأمر هذه الليلة فقط، تعاود نومك، تُشرق شمسك، ليغربَ أمرًا كان مستوطنًا فيك، ما كان (عيب) أو ربما (حرام) بالأمس، اليوم لا بأس إن فعلته، أو على الأقل إن شاهدته على غيرك! يتكرر الأمر ليس ليلة الأمس واليوم، تتغيَّر الحوادث، تنقلب المعايير وتختلف الموازين، من كان بالأمس يناصرك، غدا اليوم لا يعرفك!

أضحى صاحب المبادئ، الذي يرفض ما يُخالف معتقداته، يُنعت بالمُعقَّد أو أنه من بقايا العصر الحجري! أنَّى لذاك المُعقَّد الذي فاتهُ الكثير من الدُّنيا، أن يواكِب ما يحدث دون أن يمسّ قلبه بسوء، دون أن تزلَّ قدمه، إن الأمر أشبَه ما يكون بالشَّعرة الرفيعة، هي ما تفصل صاحب المبدأ عن غيره، أنَّى له أن يحفظ خزائن قلبه، ودائع الرحمن فيه؟

في زمنِ الفتنة، صاحب المبادئ، من يخشى من أمورًا يراها غيره “ماتستاهل” مو من يستعظم الصغيرة؛ خشية الزَّلل!

صاحب المبادئ ذاك الذي كان يُحزنه فقد الأصدقاء، الخلافات الصغيرة التي تجعله يبتئس، ما عادت تشكِّل فارقًا في حياته؛ ليقينه بأنَّه إذا صلُح ما بينه وبين ربه، سيُصلح الله ما بينه وبين النَّاس.

صاحب المبادئ الذي إن كان فيما مضَى يقرأ قراءة سطحية للنُّصوص، فإنه اليوم يتفحَّص الحرف تلو الآخر، يُدرك متأخرًا أن أعظم المُصاب مُصاب الدِّين، وما دون ذلك هيِّن هيِّن!

” … وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا , وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا , وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا , وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا”

محمد صلى الله عليه وسلم

يحدث كل هذا في (لحظة)، في لحظة يرتفع الإيمان، في لحظةٍ يهوي، في لحظة تثبت، وفي أخرى تنزلق، تُدخلك الدُّنيا في حالةِ غيبوبة، تفقدكَ القدرة على الخروج منها، من انغمسَ فيها يفهم ذلك جيدًا، يعلم كيف أن كل شيء لا ينتهي، بل يجرّ لأمرٍ أكثر سوءًا وأكثر تعقيدًا! تنغمس وتنسى أو أنًّك تتناسى عمدًا أن كل ما على هذه الدُّنيا (صعيدًا جُرزًا)، جاف قاحل، لا حياة فيه! لكننا لازلنا نرتشف العلقم، ونظنّه الشفاء لأرواحٍ أعياها التًّعب.

ينسلّ العُمر يومًا بعد يوم، تمامًا كما ينسلّ الرمل من بين أصابعك، لتفشل كل محاولاتك لامساكه! للاحتفاظ به.. إنه يمضي، حقيقة أنَّنا نقترب من أجَلِنا، غائبة، وهذا ما يجعلنا نستمرّ في التكاثر، في رغبة المزيد من كلّ شيء، في جُوعنا الدًّائم لكل شيء وأيّ شيء، في فُقداننا الشُّعور بالشَّبع رغم كل الذي نمتلكه وما هو قيد الامْتلاك!

إنَّ الأباريق لا تَشيخُ، إلا إنْ فقدتْ ماءَها ! وتشيخُ القلوب، إن فقدت يقينها، إن فقدت صَبره

– د. كفاح أبو هنُّودة

وعلى ما كُتب في مقدمة التدوينة، ألهمني الحقّ بأن يُدار النقاش حول الفروقات الجذرية لا القائمة على الشكليات والمظاهر بيننا وبين أمريكا، كلانا لدينا سينما، كلينا تقام في مدننا حفلات الغناء، كلانا يُسمح للمرأة بالقيادة، أخبرتها بأن بيننا وبينهم البَون الشاسع! وأن قيمة الشيء في جوهرهِ، في القيم والمبادئ التي يؤمن بها، ما فائدة كل الترفيه والأسرة، صمّام المجتمع ونواته متفككة؟ ما تراه من سعادة في ثغر أحدهم، فو الله ما سُعِد منه إلا مبسمه! أما باطنه لا زال في التيه، مُتخبطًا، عن الحقيقة جاهلًا.

(وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِی مُدۡخَلَ صِدۡقࣲ وَأَخۡرِجۡنِی مُخۡرَجَ صِدۡقࣲ وَٱجۡعَل لِّی مِن لَّدُنكَ سُلۡطَـٰنًا نَّصِيرًا)

الإسراء: ٨٠

You may also like

2 تعليقات

A o b 3 فبراير 2020 - 2:47 م

((ما تراه من سعادة في ثغر أحدهم فو الله ما سُعِد منه إلا مبسمه! أما باطنه لا زال في التيه)) ممكن أضحك وأنا حزين داخليا وممكن أبدو حزين وهادئ وأنا أشعر بالطمأنينة والراحة فحقيقة السعادة والشقاء هي شعور داخلي لا يعلمه ولا يقدره الا الشخص نفسه

Reply
إيناس مليباري 5 فبراير 2020 - 8:09 م

الحمدُ لله على نعمة الهداية والدِّين، لولاهم لهَلكت الأُمَّة.. لكنها ألطاف الكريم

Reply

اترك تعليقا