الرئيسية إينَـاسِّيات كما ربيّاني صغيرًا

كما ربيّاني صغيرًا

بواسطة إيناس مليباري


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

parent

من اليسير على الإنسانِ أن يقضي مهام له أو لغيره، في الأوقات التي يكون فيها مزاجه مُعتدلًا، بينما يصعُب عليه ذلك، في أوقات انشغاله، تلك الأشغال التي تبتدأ ولا تنقضي، لكن بعض أو كثير من هذه الأشغال، رغم أنها تُشغل هذا الإنسان ، إلا أنّها تُسعده! لذا فإنه يجد العُسر الشديد إذا اضطر للقيام من وقت انشغاله بأموره الخاصة، وتلبيته لمهمة ما، لأحد ما ! حتى لو كان هذا الأحد يعني الكثير لهذا الإنسان، المحبّ لكثيرٍ مما يُشغِل وقته! هو يحبّ ، لكنه يريد في هذه اللحظة إتمام لحظته!

لمّا كبرتُ، ووجدتُ نفسي وسط العديد من الهوايات، التي تُسعِد قلبي، وتُبهجه، كوّنت العديد من العلاقات والصداقات التي تزيد من سعادتي، وكثيرٌ مما أحبتُ، يحتاج لقضاءه، وقت طويل! وهذا الوقت الطويل، يتزامن مع احتياجات أحد ما، أحبّه!

أجدُ متعتي بين قصبة خط أخطّ بها أحرفًا، كما أجدها في كوب قهوة ترافق ما سأكتبه على الحاسوب! أجدُ متعتي في حديثي مع الصديقات، وفي أمورٍ كثيرة، لكن في مراتٍ عديدة، اضطررت لأن أتوقف عن المتعة، لتلبية احتياجات أحد ما ، أحبّه!

أنا التي كبرتُ، وظننتُ بأنّي فقهتُ الحياة، بكلّ حذافيرها، لمّا ابتلاني الله بكلّ هذه المُتَع، وقدّر بأن كثير مما أحبّ، ينقضي بشكل لا أحبه ولم أكن أتوقعه! ليس لأني لم أجيده، فلو كان هذا السبب، لهان عليّ الأمر ولمَا شقّ على قلبي، لكنّ السبب في انقضاء ما أحبّ بالشكل الذي لا أحبّ، هو لتلبية احتياجات أحد ما ، أحبّه!

أحد وأوّل وأهمّ هؤلاء الذين يحبّهم قلبي : والدايّ، أمّي وأبي!

لما كنت أصغر من الآن بكثير، ظننت بأنّ الحب الذي استقرّ في قلبي، نحو والداي، كافي لأن أكون من الباريّن بهما، ولمّا كبرتُ قليلًا، تغيرت نظرتي لمعنى البرّ، فظننتُ بأن قليلًا من الأعمال الصالحة تجاههما، يُدخلني في صِنف البارّين! لكن، لما كبرتُ، علمتُ أنّ هذا المعنى خاطئًا أيضًا !

لمّا كبرتُ، علّمني الله أن البرّ عسير جدًا، ورغم كل العُسر الذي يُلاقيه الإنسان، إلا أنّ الله يُكرمه بشعور لذيذ جدًا، لا يمكن وصفه بالكلمات، البارين يشعرون بذلك، وربما كثير منهم لا يعلمون بأنّ كثير مما يشعرون به من مشاعر جميلة، هي هبة الله لأفئدتهم؛لبرّهم.

كيف ينال الواحد منّا البرّ؟

يقول السعدي -رحمه الله:

{ لن تنالوا } أي: تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة، { حتى تنفقوا مما تحبون } أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم.

والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك، ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثاباً عليه العبد، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، محبوبًا للنفس أم لا، وكان قوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.

ماذا تحبّ؟ وقتك؟ أصدقاءك؟ نومك؟ .. انفق منه! هذا هو البرّ. البرّ ليستْ مهمة مُنحصرة في وقتٍ مُحدّد! البرّ ليس أن تقوم بمجموعة مهام، متتالية، ثم تفرغ لنفسك! البرّ: أن تؤثر والديك على نفسك! ورغم عُسر أن يصلَ الإنسان إلى هذه المرحلة ، إلا أنّ الله يُيسرها على من صدَق.

وعن البرّ، يقول الحسن البصري:

إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون.

حين تكون بارًا، تتعلم كيف تكون أشياءك المهمة جدًا، وأعمالك العزيزة على قلبك، أن تكون دائمًا ثانوية، في حضورِ والديك. حين تكون بارًا، يكون من اليسير عليك تأجيل كل مهمة عاجلة بالنسبة لك، وكلّ مهمة كنتَ تظنّ أنها لا يُمكن تأجيلها، يُعلمك الله بالبرّ أن كلّ مهمة هامة جدًا، قابلة للتأجيل، مادام الأمر يتعلّق بوالديك!

ليس هذا فحسب، بل أشياء كثيرة، تحدث لك ، لم تكن تعلمها، يُعلّمك الله إياها، وأنت في طريقك نحو البرّ، وفي المقابل، ثمة أمور يُكرم الله بها قلب البارّ، وكما قلتُ سابقًا، بعضٌ ممّا يُكرم الله به قلب البار، يكون خفيًّا! للحد الذي يجعل الشخص البارّ لا يُدرك السرّ وراء حدوث الكثير من الأمور المُبهجة في حياته، ويدرك أو لا يُدرك السرّ في تيسير الله له لأمور، لم يوفّق لها غيره! رغم أن غيره- بالمنطق- قد يكون يستحق ما وصل إليه هذا البار! إنّه البرّ وما يفعل.

ذكَر البغوي في تفسيره للآية السابقة:

روي عن مجاهد قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فدعا بها فأعجبته ، فقال : إن الله عز وجل يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) فأعتقها عمر .

طُرق البرّ كثيرة، من أهمها ما فعله عُمر! الإنفاق ممّا تحبّ. أن تؤثر على نفسك ولو كان بك خصاصة. الله يتقبّل كل ما تُنفقه لوالديك، مهما كان ما تنفقه صغيراً ، (‏الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ‏)التوبة:79، حتى جُهدك الذي قد يكون لُبّ البرّ، أن يشعر قلبك بالكدّ وبالجُهد حتى ينال برّ الربّ.

وفي هذا يقول الطبري في تفسيره:

قال كثير من أهل التأويل ” البر ” الجنة، لأن بر الربّ بعبده في الآخرة، إكرامه إياه بإدخاله الجنة.

وألذّ مُتعي ولذَائذي، أنا التي لازلتُ في المرحلة الأولى من البرّ، ورغم أني مقصّرة حدّ النخاع، رُغم أنّي لازلتُ أتعلم كيف أؤثرهما على نفسي، إلا أنّ الله يهبني بنفحات من لذيذ البرّ! تتجسد متعتي وأشعر بأنّ الدنيا قد حيزت لي بما فيها، بدعوة صادقة من ثغر أحدهما، تلك الدعوة التي تأتيني في الوقت الذي لا أتوقعه، رغم أن الدعوة الصادقة، الصادرة من ثغرهما المُبارك، لا تتجاوز الكلمتان أو الثلاث، إلا أن وقعها على قلبي أكبر من ذلك بكثير!

في اللحظة التي يكرمك الله ويُرسل لك إشارة بأن والديك في هذه اللحظة، راضيان عنك، لحظة ثمينة، لا تعادل شيء إطلاقًا، وبشكل لا إراديًا، تشعر بأن هذه اللحظة، هي اللحظة المناسبة جدًا لأن تُقبض روحك! قبل أن تجرّك الحياة لها مرّة أخرى فتُمارس العقوق بشكل مباشر أو خفي!

الحمد لله على كلّ نعمة أكرمنا الله بها، الحمد لله الذي يغفرُ الزلات ويجبر النقص، الحمد لله الذي يُعطينا مهما قصّرنا، ومهما انحدرنا نحو الحياة، إلا أنّه يردنا إليه وإلى سُبل الحصول لرضاه، بالردّ الجميل، الحمد لله الذي يمنحنا الفُرص دائمًا حتى نكون أفضل مما كنّا عليه بالأمس، الحمد لله على نعمة عُنوانها: أمي وأبي . اللهم اجعلني وإخوتي من البارّين بهما،واحفظهما بما تحفظ به عبادك الصالحين.

وَقُلْ رَبّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

You may also like

3 تعليقات

دعاء 14 يونيو 2015 - 7:21 ص

كنت دوما ابحث عن فعل يوصلني للبر
بل ودعوت الله راجية “يارب يسرلي البر وارزقني الرضا”
ظننت فعلا ان هناك شيء واحد ان ركزت عليه نلت رضاهما
ورضى ربي.. وكلما كبرت يوما
علمت اكثر ان الرضى كما أسلفتي بانفاق مانحب
احمد الله كثيرا أن أصلت أمي في قلبي هذا الأمر
فلا أولوية قبلهما.. ولا يهم رضى من لن يعينني على رضاهما
دمت لنا ايناس .. بارك الله لك وادامك ناصحة ومعبرة ..

Reply
Reem Hasan 14 يونيو 2015 - 3:16 م

جميييل هو وصفك للبر وكيفية الوصول إليه.. فعلا تمر بنا أيام نظن أننا أدركنا فيها البر أو وصلنا إليه، في حين أن أياما أخرى تأتي لتمتحن صدق ادعائنا للبر!

وكم من مرة أنقذتنا فيها دعوات والدينا! وكم من مرة فتح الله علينا فيها فتوحا بسبب دعواتهم حفظهم ربي وأطال في أعمارهم وأعاننا على برهم وإسعادهم

شاكرة لك هذه التدوينة الجميلة أختي إيناس!

Reply
إيناس مليباري 29 يوليو 2015 - 11:00 ص

دعاء:
كل شيء نصفه بالعُسر، يُيسره الله لمن سلك السبيل لإتمامه ❤️
آمين ياحبيبة ، شكرًا لطيب حضورك

ريم :
نسير في حياتنا مطمئنين بفضل دعواتهم، وهذا للأسف مالم نستطع حتى الآن إدراكه بشكلٍ كاف! لأن الإنسان لو أدرك ذلك جيدًا والله ماتركهما لحظة !
يارب أعنا على البر واجعلنا من البارين
شكرًا ريم على جميل الحضور 🌷

Reply

اترك تعليقا