بوح

بواسطة إيناس مليباري


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Bird

[١]

قلتُ سلفًا ، بأني بعد عملي كمعلّمة في رياض الأطفال ، فقد شعرتُ بما تعانيه الأمّهات . الآن أرغب في تغيير رأيي : لم أشعر تمامًا بما تمرّ به الأمهات !

وصلني شعور أن يقتطع أحد أبناءك ، وقت هدوءك ، وقت خلوتك ، وقتك الثمين بالنسبة لك ، لم يصلني هذا الشعور إلا حين هُوجم وقتي الذي أحبّ من قبل أبناء إخوتي !

نسيت كم أني أحبهم ، كلّهم ، يوسف ، ريتال ، جنى ، بسّام … لكنني الآن أرغب في انصرف وحدي ! وهذا ما لا تستطيع الأم فعله في الواقع ! أن تكون لوحدها متى شاءت ! الأمر الذي لن تشعر به ، إلا حين تعيش تفاصيله .

حين تخطّط لطقوسك ، وتتفنّن في ذلك ، ثم وبكل بساطة ، يقتطعها أبناءك ، تكون مضطرًا أن تتنازل عن طقوسك ! ولأني لم أصبح أمًا بعد ، كان عسيرًا عليّ تقبّل ذلك .

وحدها الأمّ ، من بين سائر المخلوقات ، بين الحب والحاجة ، تفضّل حبها لأبناءها على حاجاتها الخاصة ، بينما لا يستطيع فعل هذا أي أحد آخر ! 

الأمومة ، أصعب وأشرف مهنة تقوم بها النساء في العالم . اللهم ارزق أمهاتنا وأمّهات المسلمين الأجر ، وادخلهن فردوسك الأعلى في الجنة .

[٢]

أرأيتَ إن كان جيب ثوبك ، مثقوبًا ، ماذا سيحدث للأشياء التي ستضعها بداخله ؟ ستسقط دون أن تدري !

معلمة رياض الأطفال تحديدًا ، لكي تمضي قدمًا في رسالتها السامية ، فعليها أن تمتلك جيوبًا كثيرة من الصبر ، تضع في جيبها الأول رفسة طفل لها ، وفي الجيب الثاني ، تضع غضبًا امتصته من طفلٍ ثانِ. ، وفي الثالث  تضع فوضى لم تُسيطر عليها ، تمتلىء جيوبها ، وكثير مما يجب اخفاؤه في تلك الجيوب ، باقٍ ، ينتظر !

في المرات التي أشعر فيها بامتلاء جيوب صبري ، أتعمد لترك طفلًا طالت مدة بكاءه  ؛ ذلك لعلمي بأن صبري أوشك أن ينفد ، وأمور كثيرة قد يفعلها المرء بالغة القبح ، إن فقد صبره . المهم أني حين أتركه دقائق معدودات ، أحرص أن استجمع قواي التي خارت ، تارة بالاستغفار ، وتارة بانشغالي مع مجموعة أخرى من الأطفال منسجمون في النشاط ، بعد ذلك أعاود الالتفات للطفل الباكي أو الذي قد كثرت شكواه في اليوم الواحد .

وقد وجدتُ في هذا حلًا وسطيًا لنفسي على الأقل ، لكنها لم تبدو كذلك للمارّة ، الذين قد يتبادر لذهنهم بأن  هذه المعلمة قاسية القلب ! تصلني الكثير من الكلمات ، من خلال نظرات المارة ، الذين يشاهدون الموقف ولم يقدّر الله لهم أن يعيشوه ، أو أنهم عاشوه ، لكن مرور السنين ، أنساهم مرارة أن يبكي طفل لأكثر من ساعة ونصف بشكلٍ مستمر ، تلك النظرات تزعجني ، لكنها لن تجعلني أتضعضع للخلف ، ذلك لأني أخاف الله وأتخيل دائمًا لو كان فلان طفلي ، كيف أحب أن تعامله معلمته ؟

[٣]

تسأل المُجيب أن يعطيك أمرًا ، ثم تنساه ، ثم تطلبه أمرًا آخر ، وتنساه أيضًا ، وفي وقتٍ غير متوقع ، يُعطيك ما سألته دُفعة واحدة ، لا تدري ما أنت صانع ، تفرح ، لكن لكل أمر متطلباته ، تقول في نفسك : لو جاءتني متفرقة ، لكان أفضل ! ولا تدري بالحكمة من إجابتها في الوقتِ عينه .

عندما زادت مهامي الكتابية ، مدونتي ، ومدونة معلمة الخير ، إلى جانب مشروعي الكتابي ، ختامًا بالكتابة في المجلة  ، أسعدني ذلك ، وأربكني !

في وقتٍ لاحق ، تعلمتُ كيف أتنازل عن طقوسي الكتابية ، وقد هيأ الله لي الأسباب ، واستطعت أن أكتب في أوقات وظروف لم أتوقع أني أستطيع أن أُنتج فيها شيئًا !

وعلى سبيل المثال : أستطيع الآن أن أكتب على الهاتف المحمول ، في تطبيق Pajes ، وهذا مالم أكن توقعه ! كانت الكتابة لابد أن تتم على الحاسوب ولا شيء سوى ذلك ! أستطيع الآن الكتابة بينما يكونوا أبناء إخوتي حولي ، وقد تكون ريتال تلعب مصففة شعري ، وأنا ” زبونتها” !

في المقابل ، اعتذرتُ سلفًا ، فور شعوري بالضغط الكتابي ، من إحدى الجهات الموكلة بالكتابة لها شهريًا ، وكان اعتذاري لمدة شهر واحد ؛ حتى أدير وقتي وسط الزحام ، ثم أعاود الكتابة ، عدم الرد ، ساء قلبي .

تخيلت لو أفصح كل إنسان بما عسُر عليه ، وقوبل بالتجاهل، أتراه يفصح في المرات المقبلة ؟ لا أدري ! ما أؤمن به هو أنك تستطيع أن تقول كل مافي قلبك ، مهما كان ماستقوله سيئًا ، لكن بأسلوب مهذب ،سيتقبلها المتلقي بردًا وسلامًا ، لكن عدم الرد ، يُعدِم شيء فينا .

 

[4]

وشعورٌ لا يُروى بالماء ، يصفه الشيخ توفيق الصايغ :

جاءني بالـماءِ يــــروي ظـــمأي
صاحب لي من صِحابي الأوفياء
ياصديقي جنّب الماء من فمِي
عطــــش الأرواح لا يُــروى بماء

 

كل شيء قابل للادّخار ، إلاّ مشاعرنا ، كلما ادخرناها ، فسدت- عبد الله المغلوث

You may also like

5 تعليقات

أنوار قاري 20 مارس 2015 - 5:21 م

صحيح اختي ايناس
الحل الوسطي هذا
هو من الحلول اللازمه رغما عنا
حتى نستطيع إكمال المشوار

اللهم اعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك
و اعنا على التربية و التعليم و الابداع و التفكير و التركيز

Reply
دعاء 21 مارس 2015 - 12:22 ص

لمست جرحا بل أكثر

Reply
أفنان الشاطري 21 مارس 2015 - 6:28 م

رائع يا نوسه
فعلاً أشعر أحياناً أني بحاجة لممارسة طقوس أحبها
لكن تبقى الأولوية للصغار دوماً
الله يكون في عوننا جميعاً

Reply
علي العمري 22 مارس 2015 - 8:37 م

لا أحد يشعر بما يعانيه غيره تماما، ربما يقترب من ذلك ولكن تظل التجربة الخاصة علما حضوريا لا يمكن تحصيله حتى بتجربة مقاربة وإن آمكن تصوره بنوع من التصور … وفي تجربتك كمعلمة رياض أطفال لا شك أنك اقتربتِ من دور الأمومة كثيرا وأحسستِ بقدر من المعاناة التي تنهض بها كل أم بحسب اقترابك، ومع أنك لستِ أماً لكن هذا لا يعني أنكِ لم تقفي على درجة من درجات سلم الأمومة، كيف لا وقد عانيتِ عبء العناية بمجموعة من الأطفال وحملتِ على كاهلك مسؤولية تربيتهم وتعليمهم والحرص على سلامتهم، وتلك مهمات ليست بالسهلة ولا هي في ذات الوقت خارجة عن مهمة الأم، أسأل الله أن يجزيك ويجزي كل معلم ومعلمة خير ما يجزي عاملا عن عمله، وأن لا يحرم أمهاتنا جزيل الأجر على ما بذلنه من أرواحهن وأعصابهن وأوقاتهن في سبيل تربيتنا والعناية بنا وإعدادنا لنصل إلى ما وصلنا إليه الأن، وكم تحملن في سبيل ذلك من مشاق ما كن ليتحملنها لو لم يكن أنفسهن جزءا من رحمة الله، وكم لله من رحمات وأيدٍ، أسأل الله كما وفقهن أن يوفقنا في النهوض بحقهن خدما أذلاء تحت أقدامهن وتلك والله المنزلة التي لا تبلغها منزلة والشرف الرفيع التي يتضع دونه كل شرف.
*******
بالنسبة لطقوس الكتابة فأنا واحد من الذين يعانونها أو ربما يحاولون التذرع بها كسلا ولكن تجربتك في الانعتاق منها مشجعة؛ لذلك سأبدأ الكتابة في ظروف مغايرة فمن يدري قد أنجح .

ودمت موفقة أختي الكريمة.

Reply
إيناس مليباري 11 أبريل 2015 - 5:30 م

أنوار :
اللهم آمين
جزاك الله خير

دعاء :
الله يجعل أفئدتنا تشعر بما يعانيه الآخرين من الناس ، فتتعظ ..

أفنان :
ما أعظم أجركم
احتسبي الأجر والله يجعلهم لك قرة عين : )

علي :
صحيح ماقد أوجزته ( لاأحد يشعر بما يعانيه غيره تمامًا )
الله ينفع بنا ، ويعطينا أكثر مما نستحق : )

بالممارسة والتدريب ، ستجد أنك تتنازل عن الغليظ من الطقوس : )
أهلًا بك

Reply

اترك تعليقا