قد قيل لي فيما مضى “اكتبي يوميّاتك” وكنتُ يومئذ أجدُ بأن نصيحة كتلك تعدّ بذخًا وترفًا، فأنّي لي الوقت لتدوين كل ما أمرّ به؟ ثمّ ماذا أكتب؟ ولمَ أكتب أصلًا؟
وكلّ عام يمضي من عُمري ازدادُ تمسكًا ويقينًا بعدم حاجتي للتدوين، ولا أجدُ بأسًا في فواتِ ما كنتُ أجده ثمينًا وهامًا من مواقف وصور ذهنية.
حتى جاء اليوم الذي تسلّل فيه شعور الندم ليكسوني من أعلاي لأخمص نقطة فيّ!
أثناء شروعي لكتابة كتابي “تلك عشرة كاملة“، كتبتُ صفحة وصفحتين ثم باغتتني موجة ضبابية حالت بيني وبين ما كنتُ أتوقع تذكّره بالفطرة! فشلت محاولاتي لاستدعاء المواقف واللحظات التي تعلمتُ منها دروس وعظات! حينئذ ندمتُ وتأسفتُ لعدم اتّباعي لنصيحة التدوين اليومي ولو بشكل رؤوس أقلام!
هذه المقالة تحضّك على التدوين والتوثيق الكتابي والصُوَري، دوّن ما استطعت لذلك سبيلا، وصوّر – دون مرحلة الهوس- دوّن ما تمرّ به من مواقف، وحوادث ومشاعر، أفراح وأتراح، والتقط ما تجده اليوم عابرًا، ليكن لك غدًا مصدر إلهام وإنتاج.
والحقّ، ما نفعني إلا ما قد نشرته عبر وسائل التواصل الاجتماعي من “انستقرام” وتدوينات متفرقة في مدونتي “كلمة طيبة”، وصدق من قال: ” يفيدك من العلم ما نُشِر” وهذا ما حصل معي بالفعل، غدوتُ كالذي بعثرت الرياح حاجيّاته، فهرول لجمعِ ما يُمكن جمعه.
ثم إنَّ رؤيتي لبعض المنشورات أعانني بعد الله لاستذكار ما وراء النص والصورة، الأمر الذي كان من شأنه لتداعي الأفكار واستكمال الأجزاء الناقصة من المقالة.
ومما استحسنتهُ بشكل شخصي هو وجود الهاتف المحمول معي طوال الوقت، وعلى صعيد التعليم مثلاً، فإنك لا تعلم متى تجد الموقف أو الالتقاطة المُناسبة لطفلٍ دون غيره، ومن الجميل التنويع بين الصور الثابتة والمقاطع المرئية ما بين التقاطة مباشرة – بعلم الطفل- والتقاطات غير مباشرة، كأن تصوّر حوار بينك وبين أحد الأطفال تجاه أمر ما، أو توثّق موقف مُلهمًا بين طفلين أو مجموعة أطفال.
كيف تستثمر الصور والمقاطع؟
وفي استثمارها طرائق عدة، سأذكر جُملة منها، قد تستخدم لتثبيت السلوكيات الطيبة، حدث أن التقطتُ حوارًا موفقًا بين طفلين، طلب الأول من صديقه أن يزوّده بقطع المكعبات الخاصّة به، أعطاه صديقه الثاني وهو صامت، رد الأول: “شكرًا شكرًا، الله يعطيك العافية“. استعملتُ هذا المقطع في درسٍ لتعلم الكلمات الطيبة.
وينجح استعمالها أيضًا لزيادة الروابط بين طلاب الفصل، ففي درس تعرفنا على مفهوم الأصدقاء، استعملتُ صور الأطفال أنفسهم، تارة وهم يلعبون سويًا، ويتعلمون، ووجدتُ بأن الدرس الذي يُضاف له صورة أو مقطع أو ذكر موقف خاص بالأطفال أنفسهم، فإنه أدعى لئلا يُنسى.
ما سبق كان نموذجَا واحدًا لأهمية التوثيق، بيد أن هناك جوانب لا حصر لها بحاجة حقيقية للتدوين، ألا وهي التحاضير والدروس، وملاحظات المعلم نحوها، ولو على عُجالة من أمره، يدوّن ما أصاب في اختياره وعرضه، ويدوّن إخفاقاته وأخطاءه، وهذا ممّا يسّهل للمعلم بقاؤه على الجادّة الحقّة.
فحين يبدأ كل شيء من الصفر مطلع كل عام، يكون ذلك هوانًا عليه ووصبًا، على عكس من بدأ من حيث انتهى في عامه الماضي، وفي كل عام يضيف لملفاته ليصبح من كون تجربته في التدريس – أو في أي مجال- تجربة عادية عابرة، لتجربة مُلهمة تستحق نقلها ونشرها بل وتدريسها.
ولأصعّب المسألة عليك عزيزي القارئ، من بيننا من هو بارع في التدوين لكنه مع ذلك في مكانه باقيًا رغم انصرام السنين، والسبب قد يعود لكون محفوظاته عشوائية وليست مرتبة ترتيبًا يسهل الرجوع إليه، الأمر مُجهد لكنه مفيد على الزمن البعيد، ومن حولنا من أبدعوا في هذا المجال.
كنتُ أستغربُ بداية حين طلبي من أحدهم بإرسال ورقة معينة مرّ زمن طويل عليها، أستغربُ من سرعة الإجابة والإرسال، وما أعوّل ذلك إلا لصحة تسمية الملفات قبل حفـظها، ثم التصنيف الصحيح لها.
زال استغرابي بعد أن ألزمتُ نفسي باتّباع الخطوات الصحيحة للتوثيق الكتابي والحفظ الإلكتروني، ووجدتُ أن كل جهد لم يوثّق فهو لعمري جُهد ضائع.
استعن بالتقنية وابحث عن التطبيقات التي تُساعدك للالتزام بالتدوين، أحد الطرق التي استحدثتها هو تفعيلي للملاحظات الصوتية، وبه قد قطعت على نفسي أيّ عذر للانشغال، فصرتُ أسجّل وقت استراحتي في الروضة، أو في وقت الانتظار.
دوّن، لئلا تجد يومًا بأن جزء من التجربة مفقود! وكُن على يقين بأنّ كل تجربة إنسانية فريدة، وأول طريق لمشاركتها، هو كتابتها!