بسم الله الرحمن الرَّحيم
إنها الكلمة الأكثر شيوعًا، الرد الأشهر على الإطلاق “انشغلت” إذا ما التقى اثنان بعد طول غياب، أو حتى بين من تأنس بهم دائمًا.. بين يومهم وليلتهم تستعمرهم الانشغالات، حتى لتكبّل البعض فتشلّهم عن الحركة، فإنك لا تجد حالهِ إلا أشبه بالرجل الآلي، الذي لا قوام له إلا بقيام غيره عليه! تُحرّكه “انشغالات الحياة” كيفما شاءت، فلا جِهاد ولا مُجاهدة.. لا أمل يعقبه عمل! سوى السير مضيًا فارغًا من كل شيء.
ما يعيق الكثير منّا عن تحقيق أهدافه، عن ممارسة هواياته، تطوير نفسه، إكمال مشاريعه… هو ظنّه أن ما يحدث له الآن، هو ما جعله يتوقف… لا يظنّ هذا المسكين أن هذا الأمر الذي يصرّ على أنه: أمرًا عارضًا.. سينتهي ليبدأ أمرًا – وقدرًا- مفاجئًا، لينتهي العارض الثاني، ويُشرع الثالث بالقدوم! إنه كمن وضع القدر على النار لينضج الطعام، ثم “انشغل” بأمورٍ طارئة.. قد يصفها بالعاجلة لكنها ضرورية لأن يلبي لها النداء، ما سيحدث على وجهِ التحديد هو أن النار لن تنتظر فراغه من كل ” الانشغالات” لينضج الطعام، بل سيحترق لطول الانتظار! سيفسد كل شيء، ستضيع جُهود البداية! وأيّ حسرة ستفيد؟
حسنًا إن كان ثمة أمر طارئ عارض طوال الوقت؟ ما الذي ينبغي علينا فعله لئلا نفقد الوُجهة؟ في البداية دعني أشرح لك ما تعنيه كلمة: “أمر طارئ عارض“، يعني أن تُباغتك أمورًا وأقدارًا لم تكن بالحسبان، لم تضع لها خطة مُحكمة، فجأة صار من المستحيل الإنكار أنها جزء من حياتك، والعوارض ياصاح كُثر! منها ما هو عارض طارئ مؤقت، ومنها ما هو طارئ ثم يلزمك عُمرًا لتستوعبه.. مرضًا يُقعدك، فقدًا يوجعك، مصيبة تُحيّرك، أمرًا جديدًا في حياتك لا تجد له تصنيفًا لكن يشتتك، يربكك، انتقالك لمكان جديد، … الخ. كيف لك أن تُحافظ على توازنك، أن تعيش هذا القدر الجديد مُحتسبًا وعينك على وُجهتك؟ لئلا يُظلم طريقك، فيصعب عليك تمييزه؟
الآن نجيب على: ما الذي ينبغي علينا فعله لئلا نفقد الوُجهة؟ أن يظل قلبك مفتوحًا دائمًا، كما تبصر عيناك، على قلبك أن يفعل! المتيقظ هو مَن يستوعب الأقدار جيدًا، صحيح الإيمان الذي يعي أهمية عبادة الاستهداء، الذي يعي جيدًا أن تكرار (اهدنا الصراط المُستقيم) لم يكن عبثًا ولا مُصادفة عجيبة! الذي يملك كل هذا، يمكّنه الله من إدراك ما يحدث حوله من متغييرات، يكن ذكيًا كفاية ليخرج من الموقف بدرس أو موعظة، ما تمرّ عليه عوارض وهو ساهي! وإذا ما طرأ عليه أمرًا استشكل عليه فَهمه، فلا بأس! سيعاود طلب الاستهداء ليمضي الأمر بلطف مولاه، سيظل الموقف عالقًا بخُلده… لكن الموقف لم يُقعده، لم يأخذ منه مأخذ العجز والضعف، لأنه يدرك أن الحياة لا تنتهي بهذا الحدث، مهما كان عصيبًا أو سيئًا بحد وصفنا! الذي جعل الحياة والدين يمضيان رغم وفاة نبينا المُصطفى صلى الله عليه وسلم، سيجعلها تمضي رغم أوجاعنا، وأتعابنا، وكل تعقيدات الحياة! فإذا كانت الحياة ماضية ماضية.. فلمَ لا تمضي بشكل أفضل؟
في ليلة، حدث أن هاتفتُ إحدى الصديقات، بُحت لها بالأمر العارض الذي طال أمره، وجَهُل سبَبه! بالمناسبة ” سبب الحدوث” ليس من شأنك في كل الأمور! البحث عن السبب في كل شيء مضيعة الوقت! بعض الأقدار من شأنها أن تحدث لأن الله كتب هذا! لا تُحمّل الناس فوق ما يطيقون.. فكل أمر قد كُتب في سنن الله الماضية.. وإن كان البحث عن السبب يحل الكثير من المشاكل، لكنني أقصد أن فئة من الناس تستنزف وقتها في التفكير والتحري حول سبب الحدوث متجاهلة في النهاية أنه ليس من الممكن الوصول للأسباب الحقيقية في كل شيء، هناك أشياء أسباب واضحة، وأخرى أخفاها الله لحكمة، التسليم دورنا، ولا غير ذلك!
قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “هي المصيبات تصيبُ المرءَ فيَعلمُ أنها من عند الله فيسلِّم ويرضى
… لنعد لصديقتي، بعد أن انتهيتُ من قص القصة عليها، كان أوَّل ما سألتني عنه: “وبإيش خرجتي من هذا كله؟” أي درس ثمين تعلمته مما أصابك؟ أي حكمة احتجتَ أن تعيشها بعمق كي تؤمن بصحتها؟ لا يهم كيف انتهت الأمور العارضة، فهي تأخذ دورتها وما كتبه الله لها، ما يحدث الفرق هو: ماذا أضافت لك؟ هل أضافت أم أنها أفقدت منك؟ أفقدت صبرك؟!
مَن يخرج من أموره العارضة بدروس وعِبر، ستكن له مُعينة له بعد الله على أن يصل لوُجهته، إذا كان لا يؤمن بالصدفة، لكنه القدر، قدر الله التي يصيبنا، ليقوّم فينا اعوجاج أضنانا إصلاحه! المرض الذي تنعته بأنه: “مو وقته” لم يكن يومًا عائقًا لرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، فما أكثر ما كان يقف مع صحابته وهو عاصبًا رأسه؟ يفتك رأسه به، لكنّ ذلك لم يثنهِ يومًا عن العمل والإصلاح! بل زاده صبرًا وقوّة تحمل عجيبة!
إذا كنتَ ممن يقول: “سينتهي هذا الأمر وسأبدأ” فإنك في فخّ الخُدعة! تخدعك الحياة بأن هذا الأمر العارض أجبرك أن تتوقف! وفي الحقيقة ثمة أمور عارضة “تجبرك” عن الوقوف بجسدك، فالمريض جدًا لا يملك قوة لأن يتحرك لكن الإنسان بروحه وشعوره يكون! نمِّ شعورك، واستثمر الأوقات التي تكن فيها مجبرًا بحقّ أن تتوقف عن العمل، لكن نمّي ما يمكن تنميته، لينضمّ هذا اليوم ليكن من أيام الله التي تستمد قوتك منها بعد الله حينما تضعف.. حتى تتذكر أنك ما توقفت أبدًا لكنك قللت العمل! فئام من الناس، التوقف لا يليق بهم، فكن منهم واستعن بالله ولا تعجز!
إذا اشتدَّت البلوى تُخفف بالرضا
عن الله قد فاز الرَّضيُّ المراقبُ
وكم نعمةٍ مقرونة ببلية
على الناس تَخفى والبلايا مواهبُ
ــــــ ابن ناصر الدين الدمشقي