٨|محرم ١٤٤٦هـ .. مرّ شهر على الحج!
في مثل هذا اليوم كان يوم التروية، وفيه روى الله أفئدتنا ببرد اليقين وحلاوة الإيمان، رواها بخفّة القلب وتخففه من الدنيا، زهّده بكل ما فيها من غالٍ ونفيس، مكّنه من حصر أولوياته بدءًا من تجهيز الحقيبة!
تلك الحقيبة التي يتعيّن عليك كحاج العناية بحجمها، وانتقاء أهم حاجيّاتك، تظن أنها مهمة يسيرة ثم يتكشّف لك الأمر فور شروعك بالتجهيز. تضع في حُسبانك سَعة الحقيبة ضيق والأيام قصيرة لكن حاجاتك أكبر وأكثر! ترفض الحقيبة أن تُغلق، تجد نفسك مضطرًا للتخفف من الكماليات والعناية بالأهم! وكان هذا أول الدروس. (ألهاكم التكاثر)!
ثم ما تلبث أن تجد نفسك وسط جموع غفيرة من الخلق، يارب أنا واحد من عبيدك، لكنك الله الربّ لكل هؤلاء! يا رب اشملني برحمتك واهدني بهُداك
تُزاحمك الخواطر حول كيف سننتقل؟ ومع من سأكون؟ أين مقعدي؟ تتذكر أنك مُطالب بجمع قلبك والتلبية! فما أن تقول: لبيّك اللهم لبيّك، يُنزل سكينته على فوادك، إن صدقت.
تصل للمخيم، تتشوّق لرؤية مكانك الذي ستناجي مولاك فيه طيلة خمسة أو ست ليال، تطلبه أن يكون مطابقًا للمواصفات التي ألفتها، لكن الأمر على عكس ما ترجو وتتمنّى!
علا كل سرير اسم صاحبه، كل ما عليك هو البحث عن اسمك… يُخيّل لك أن الصورة قريبة، ويكأنها قد مرّت عليك من قبل؟ تمرّ عليك الآية: ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد٦]
يدخل أهل الجنة الجنة، ولهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر الدنيا|تفسير الطبري
قلتُ لها: “أنا صاحبة شقيقة، ولا أحتمل ضوء الشمس المباشر”حيث قُدّر أن يكون سريري مقابل لباب المخيم مباشرة
أجابت: “زمان كانوا ينامو على الحجر، وأنتم الآن تكييف ومو عاجبكم، قولي الحمدلله!”
أنا: ابتلعت الكلام وسكت! خشية الجدال!.. اللهم صبرًا اللهم صبرًا!
كلّ شيء في المخيم يذكرك بالجنة رغمًا عنك! من الأسرّة المتقابلة، إلى الخدم الذين اقتصرت مهمتهم على تلبية طلباتك!، الفواكه والأطعمة التي كلما نفدت باشروا بملئها مباشرة! وحين أقول لك كلّ شيء فأنا أعنيها، حتى على المستوى الروحي، تبدو لك نفسك غريبة عنك! إذ أن كل ما كان يُحزنك، يقلقك، تتضاءل مساحته في قلبك، وتشعّ منطقة جديدة في فؤادك ما كنت لتعلم بوجود تلك الغرفة لولا تواجدك بين الحجيج.. هذا النور المشعّ داخلك لو أنفقت ملء الأرض ذهبًا لتحصل عليه دون الحج فلن تلقاه في مشارق الأرض ومغاربها! إنه نور يشعّ في أرض الأماني.. مِنى كُل المُنى.. بعد كل هذا تتساءل: كيف الجنة يا رب؟ اللهمّ اجعلنا من أهلها
منذ اليوم الثامن وقلبي يردد: “لولا صُداع الرأس وشدّة الحر لقلتُ أن تلكم الأيام أيام من الجنة!“
إذ أنّ الجنة لا شمس فيها ولا مرض!
ثم يؤتى بك إلى عرفة، ترى المشهد من بعيد، خيمة كبيرة تجمعك وسط أناس كثر، ولك من تلك الخيمة أريكة صغيرة ووسادة رأس وبطانية، ياربّ اجمع قلبي للدعاء .. يمرّ النهار طويلًا لمن فتكت الشقيقة رأسه، يستذكر أمسه الذي حاول فيه إقناع الطبيبة أن تعطيه إبرة مسكنة، لكنها رفضتْ لما علمت بعدد الحبوب المسكنة التي تناولها في اليومين الماضية، يناجي ربه بقلب وجل: “ياربّ ألحق عرفة ولا يُضعفني الصداع”.
تهبّ رياح قوية حتى تُسقط جهاز التكييف الأرضي، يا رب رياح خير ورحمة وإجابة للدعوات، يبتليك المولى بجيرةٍ يكثرون الحركة والكلام، تخيب ظنونك بأن اختيارك لمكان مزويّ في أقصى مكان في الخيمة سينجيك مما خشيته، لكن هيهات أن يفلت المرء من قدره! من اختبار قد أُعدّ له!
الساعة ٣:٣٠ دقيقة بقلبٍ منكسر قد أوصدت الأبواب في وجهه قلتُ مناجية: “يا رب هذه آخر حبة مسكن سأخذها في عرفة، يا ربّ انفعني بها، يا رب ارفع عني ما نزل” الساعة ٤:٢٠ دقيقة، أذن الله للبلاء أن يُرفع وللعافية أن تستعيد مكانها، الحمد لله! يريد الله منك ضعفك وانكسارك. يا ربّ رفعنا لك حاجاتنا ودعواتنا، فبشرنا بقبولها واعفُ عنا.
تزدلفُ من مُزدلفة، لترى الأرض الخاوية التي لا خيام فيها ولا رفاهية، تتجرّد من كل ما تنعّمت به في مِنى، تُبحر بينك وبين نفسك في هذه الأرض القاحلة، الناس نيام وقد توسد البعض الحجارة، أو قطعة كرتون، أو حقيبته، غير آبهٍ بمنظره أو ألم جسده، إنما كان همه استجابة أمر ربه! يا ربّ اجعلني ممن يستمع القول فيتّبع أحسنه!
ثم بدأ السعي! سعي الأبدان المستمرّ، بدءًا من رمي جمرة العقبة مرورًا بأيّام التشريق، وانتهاء بطواف الوداع، ترى السّاعين بأقدامهم من يمشي باستقامة ونشاط، ومن يتوكأ بعصا، ومن يسير بكرسيّ متحرك، الكلّ لمرضاة الله ساعٍ.
تقطع مسافات طويلة، قد تمتدّ لساعات حتى تصل للجمرات، تلكم الشعيرة التي تنتهي في دقيقتين! وما الحياة إلا سعيّ دؤوب لا ينقطع، تسعى لتحصيل أمور دينك ودُنياك.
تسيرُ في عزّ الظهيرة، الشمس حامية، زادك الماء البارد، ومظلة، تسكب الماء سكبًا على رأسك يا ربّ هذا حرّ الدنيا، فكيف بحرّ الآخرة؟ اللهم أجرنا من حرّ جهنم!
تنصرمُ أيّام الطاعة سريعًا، حتى حان وقت طواف الوداع، الشعيرة الأصعب على الإطلاق، فأنت أمام صراعات عديدة، صراع التعب والإرهاق، صراع الزحام والتدافع الشديد والذي قد يُنسيك أنك في الحج فتتلفظ أو تسمع من حولك يتطاول في الكلام! تستغفر ربّك، وتعيد ما تفرق في قلبك! تُجاهد شعور الحزن على انتهاء تلكم الأيام التي منحتك ثوب جديد للإيمان، وألبستك حُلّة المولود الجديد! هنيئًا لك! تفرح بداية، ثم يقطع شعورك سؤال مُلحّ:
ماذا بعد الحج؟
لعلها التدوينة القادمة!
نهاية: بالرغم من صداع الرأس وشدّة الحرّ أقول: أيّام الحج، جنّة الدنيّا!
اللهم اجعل حجتنا حجة مبرورة لا رياء فيها ولا سُمعة، والحمدُ لله ربّ العالمين