ثم قَفى، لا يُحدّثها، والعواطف والخوف يعصفان بها وبصغيرها، لم تملّ من صمته.. حاولت استدرار عواطَفه ومحاولة تذكيره بالواقع المرير، بجفاف الصحراء، وغُربة المكان… بقوله: ” يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟” لم تكتفِ بقولها مُفردة، بل كررتها أملًا بأن يعدل عن قراره، لكن العزم كان حليف الموقف، ثم ألهمها ربُّها بأن ماكان هذا سيكون لولا أمر سماويّ ، ألقت بعواطفها بعيدًا، بسؤالها: ” آ الله أمركَ بهذا؟” … هي ذات اللحظة التي كانت فيها جازعة، والرضا أبعد ما يكون من فؤادها الموجوع، هي ذات اللحظة التي كُتب لها لتكن من أهل الرضا فقالت بيقينٍ يدكّ الوجدان دكًا دكًا: “إذًا لا يُضيعنا”.
كتب عمر بن الخطاب لأبي موسى رضي الله عنهما يقول: “أمَّا بعد: فإن الخير كله في الرضا”
عُلمِّنا ونحن صِغار بأن نفتتح يومنا ونختمه بقولنا: “رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا”، كبرنا على إثِر هذا الرضا، كنا لا نعي المعنى الحقيقي للرضا، لكننا كنا نألف هذا القَول، كان الرضا يُتمم يومنا بخيرٍ، يوم أن كانت القلوب فارغة من شوائب الدنيا وزُخرفها، ولما كبرنا.. غاب معنى الرضا الذي أراده الله لنا، فما عاد الأدعية تشكّل فارقًا في حياتنا، ذلك لأن القلب مزدحم، ويلهث خلف مساعٍ فانية، تغيّرت وُجهة قلوبنا، فغدَى رضانا لأنفسنا، لما يجري علينا من أقدار، لا نقوى عليها، بأن ” نُطبطب” عليها طبطبة سطحية، نرضيها بسفاسفِ الدنيا، بأن نعطيها ما تشتهي من الأطعمة وأنواع القهوة.. نعطيها مزيدًا من ضياع الوقت بين خروج وولوج، العجيب أننا فور ما تنتهي “فورة” الرضا الوهمية، وما أن نختلي بأنفسنا، نكتشف بأن شعور السخط عمّا يجري، لا زال قائمًا، حسنًا ما العمل؟
﴿فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَاۖ وَمِنۡ ءَانَاۤىِٕ ٱلَّیۡلِ فَسَبِّحۡ وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ﴾
[طه ١٣٠]
لا أحد ولا شيء بإمكانه أن يزرع الرضا في قلبك ما لم تفعل أنت، غرس الرضا بقراءة حقيقة الرضا، جزاء مَن رضَوا عن ربهم، فأرضاهم عنه بعظيم جزاءه، بأن تعي جيدًا أن ما أنت إلا لتُختبر في أحَب الأشياء وأحب الأشخاص وأحب العادات؛ فاحرص على ألا يرى الله منكَ إلا ما يُحبّ، كلمات الرضا التي تُحدثها لنفسك، الآيات التي تُرددها، هي وحدها من ستتمكن من قلبك لتجعل شعاره في كل مرحلة من مراحل حياته يردد: “إذًا لا يضيعنا”.
” لا يُضيّعك” رغم أوهامك بأن ما يحدث لك الآن سيغيّر ترتيب حياتك أو أن ما خططت له جيدًا، هُدم بحدوث شيء جديد أو اختفاء أمر اعتدت عليه.. هذا اليقين هو النجاة الحقيقية.
عن جابر بن عبد الله قال ” دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرَّحى وعليها كساء من جلد الإبل، فلما نظر إليها قال يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة فأنزل الله (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار
وهذا ما نفعله مع صغارنا في الفصل، نُطببُّ أوجاعهم بحقائق ونصوص ربّانية، بتذكيرهم بجزاء الصابرين، بمحاولات عديدة ليستشعروا عِظَم جزاء مَن يصبر على وجع الشوكة، نعم نعلّمهم كيف يتجاوزوا ألم الشوكة اليوم، وغدًا ينمو صبره ليغدوا رضًا حقيقيًا، وتصبح الشوكة بمثابةِ المفتاح لكل ما يؤلم الجسد والروح.
“إن الخيرَ كلَّه في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى، وإلا فاصبِرْ”
عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه
ثم إنَّ الإنسان ممتلىء بادّعاءاته عن نفسه، فتارة تجده يصف نفسه بأنه صبور وقنوع، وما إلى ذلك من أوصاف مثالية، وهو يظن ذلك بنفسهِ حقًا، حتى وإن بلغ من العُمر عتيًا، تكبر أوهامه عَن نفسه، وما يكتب الله لها أن تنصهر إلا بوقوع ما لا يحتمله، قد يتأخر بلاء الله عليه، فلا يصيبه إلا في وقتٍ متأخر في عمره، فتتكشف له نفسه، فتبدو نفسه غريبة عنه! فلا هو صابر ولا هو راضٍ، لا بأس.. كلنا هذا الشخص! الحل الأمثل هو إعادة النظر في اعتقاداتنا، قراءة الآيات والأحاديث بقلبٍ جديد، وكأنه حديث عهد بالإسلام.. المهم ألا تعي حقيقة الدنيا، متأخرًا.
“إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحبَّ أن يُرضَى به”
أبو الدَّرداء رضي الله عنه
6 تعليقات
لا إله إلا الله
اللهم اجعلنا من الصابرين وفقهنا في الدين
ونور ابصارنا واملأ قلوبنا باليقين
اللهم آمين ثم آمينًا وآمين..
متى يعتبر الوقت متأخر وقد فات الآوان في حال( الموت ) مادام فيك روح ونفس يمكنك أن تبدأ من هاللحظة وأدعو الله أن يبارك لك في خطواتك
وحتى تعود الوديعة لمالكها، ليرحم الله حالنا، ويصب الرضا على القلوبِ صبًا صبًا
“وما أن نختلي بأنفسنا، نكتشف بأن شعور السخط عمّا يجري، لا زال قائمًا ..”
مر بي موقف ظننتُ نفسي فيه قوية صابرة محتسبة لكن سرعان ما انكشفت نفسي أمامي وأدركتُ وقتها أني بدون رحمة الله لاشيء أبداً فكنت مما أكرر من دعاء في تلك الفترة واستشعره ( اللهم رضّني بقضائِك، وبارك لي في عطائك ..) و ( اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء ..) طلبت الرضا منه سبحانه فارضاني وكنت أرى جميل ستر الله علي بأن وهبني رضا أشعر به جلياً فكلما أخذتني الدنيا عُدتُ لأتذكر وأذكر نفسي “إذًا لا يُضيِّعنا”
وما أكثر ما يتكرر!
ندّعي، وتُكشف عورة القلب!
اللهم الرضا التام بكل أقدارك..