جُعل الإنسان يميل للتحليل والاستفهام بطبعِه، يحاول جاهدًا فكّ شفرات حوادث أيَّامه، ويحلّل تفاصيلها، علّ السبب أن يتكشّف له، فتسكن نفسه وتطمئن روحه.
ليس بالغريبِ أن يسأل المرء: من الطارق؟ فور سمَاعه للطرق. وأن يسأل: من فعل هذا؟ عند مُشاهدته لشيء قد كُسر.
فكل حادث لا بدّ له من مُحدِث، هذا المُنطلق الذي سرنا عليه في تمريرِ ما يحدثُ معنا، لكل شاردة وواردة سبب حدثتْ لأجله، منَّا مَن تتعرّى له الأسباب، فيأخذها بقوّة، يعمل عليها ويعكف حتى ينقضي ممّا بين يديه من أسباب.
هَب أنك توعَّكت، إنَّ غاية أمانيك آنئذ هو معرفتك للسَّبب الذي طرحك مريضًا، وأثناء رحلة علاجك، قد يتجلّى لك السبب وقد يظل غامضًا، قد يطول حتى يبدو معلومًا.
مِن الناس من تكشَّفت له أسباب ومسببات حدوث ما هو ما فيه من ظروفٍ وأقدار، فقد رَحِم الله ضعفه، قد يعلم أن ما أصابه بسبب ذنب اقترفه، أو مُخالفته لوصية طبيب أهلَكته، ومن النَّاس مَن تظل الأسباب والمُسببات غامضة مجهولة، وفيهِ يختبر المولى صبره ويرفع قدره.
ليس سهلًا أن يتعامل المرء مع قدَرٍ عسير وهو غير فطن لسبب حدوث كل هذا له؟ رغم استفراغه واستعراضه لكل الاحتمالات إلا أنَّ أيًّا منها لم يُصب كبد الحقيقة! حينها يكون عُرضة لشبحِ الظنون الكاذبة والأوهام الباطلة، على غِرار أن حظه سيء على الدَّوام أو أن الحياة قد أسرفت في ظُلمه!
وما يُبدّد كل هذا إلا بتكراره على مسامعه أن: ” ما أصابه لم يكُن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه“.
في الحياة أمور تحدث بلا سببٍ واضح، والتفسير الوحيد لحدوثها هو أنها إرادة الله النافذة.
فكما أنَّه في الحديثِ الطويل: ” يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي الرجل مؤمنًا ويصبحكافرًا…” كذا حالُ الدُّنيا، تتغيّر القلوب بغير حُجَّة، حينها تنتفي كل جُهود المرء التي كان يبذلها لأجل إبقاء الود، وقد يموت الإنسان فجأة، فتموت كل محاولاته للحفاظِ على صحته، وقد تنقلبُ حياة المرء رأسًا على عقب بمرضٍ مجهول، أو قدر مُفاجئ، وهذا من سُننِ الله في الكون.
والمرجوّ ممّن قُدَّر له أن يعيش حادثة أو موقفًا وسبب الحدوث يعلوه الضباب، أن يتعامل وفق ما يحبّ مولاه ويرضاه عنه، وأن يسبق هذا كله، دعاءه بأن يُلهَم من أمره رشدًا، بهذا اليقين مكَّن الله لأصحابِ الكهف النجاة من فتنةٍ لم يحسبوا لها حساب، بيد أنها لما أتت، لم تنقلب الموازين؛ لتعلق قلوب أصحابها بربها.
قد يعطّل الإنسان سير أيّامه – على أنها تسير رغمًا عنه – محاولًا معرفة السبب، ويغفل أن المطلوبَ منه هو الفرار بقلبه والنجاة ممَّا قد يخدش إيمانه.
فانظر إلى قصّة ذي القرنين، قد قصّ الله لنا منها ما يعنينا، (قل سأتلو عليكم منه ذكرًا) أي بعضًا منها، ما يكفي لأخذِ العظة والعبرة، أما التفاصيل الزائدة فإنها لا تسمن ولا تُغني! وكذا مع قصص الحياة، خذ منها ما بيّنه الله لك، واسعَ لتحسين وضعك بما مُكّنت منه.
قالت رابعة البصرية:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إنّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ