[١]
هكذا صارت الأمور، دون تخطيط ولا ترتيب.. لم يكن سلك التعليم حلمًا يُراودني! ولم أكن ساعية حقيقية له! لكنه مُدبّر الأمر سُبحانه، يقودك لِما فيه صَلاحك وإصلاحك! ولمَّا ساقني الله للتعليم سوقًا.. أيقنتُ أنه هبة الرحمن، فالحمدُ لله.. لازلتُ أذكر جيدًا، ربما في سنتي الثالثة للتعليم، حدث أن هاتفتُ صديقتي، أخبرتها بتضجّري عن كوني معلمة، كنتُ انتظر منها أي شيء، أي قشّة أتمسك بها، أي شيء يُعيد لي مُتَع الحياة، فلا تتساوى في نظري.. حتى طمأنت فؤادي وأسكنته بإخباري بمقولةٍ، هي الآن عقيدة في الفؤاد: “بابٌ فُتح لك، فالزَمه” قد تجد فتوح ربّ العالمين تجاه أمر لا تحبه، تأتيك الفتوح عكس مساعيك وأمانيك، تغيّر وجهتك، فتجد كل شيء يُعيدك لما اختارك الباري له، لا تُعاند، لا تُكابر.. سلّم أمرك، والزم الباب.. ولا تبرح حتى تبلغ!
[٢]
في مسجدِ حيّنا، لا زالت طالبات والدتي، يذكرنَ جميل العهد بينهن، يستقبلنها بالحُب كلما قُدِّر اللقاء، كنتُ أتساءل: ما الذي يُرغمهن على السلام مع إمكانية الفرار وسط الزحام؟ .. حتى أشهدني الله موقفًا لإحدى الصديقات، كنا في درس، ودون أيةِ مُقدمات، ترى صاحبتي “أبلتها” في الروضة! اتّساع عينها، دهشتها، شدّها لعباءتي.. ترددها ما بين إحجام وإقدام.. اختتم الموقف بعِناقٍ طويل.. ودمعات الطفلة الصغيرة.. عادت بعد سنين طويلة.. ثمّة شعور في القلبِ، يُحركنا في كثيرٍ من الأحيان، وهذا ما يجعل منا أحياء حقيقيين، بمبادئ وقيم، لا ننسى من قدّم لنا معروفًا، من علّمنا حرفًا، هذّب فينا خُلقًا، وأهدانا قيمًا نقتات منها لما نكبر.
[٣]
تضيع الأسماء، وتبقى الأفعال، هكذا قالت لي مُعلمتي، لذلك كان الفعل دائمًا أقوى من الفاعل، لا يَهمّ مَن قام بالفعل، المهم هو الفعل، ماذا قدّمت؟ ماذا فعلت؟ على ماذا كان جُل جهدك؟ ما هي وُجهتك؟ لا يهمّ في الحقيقة كم سنة منّ الله عليك لتكن مُعلمًا، ما يعني حقًا هو عدد السنين التي قدّمت فيها أفضل ما عندك، لا أحد يعلم بحقيقة هذا.. سواك، وهل كنتَ فيمن قيل لهم: “.. وكان سعيكم مشكورًا“؟
[٤]
في كل مجالٍ من مجالات الحياة، ثمّة شيء “جاهز” طعام جاهز للأكل لا يحتاج لإعداد، ثوب جاهز لايحتاج لتفصيل، بيت جاهز للتأثيث.. وتحضير جاهز للتقديم!! منذ فتحتُ عيني وأنا أرى أمي -حفظها الله- تحضّر في دفتر التحضير الكبير.. آنذاك منذ ذلك الزمن البعيد، كان هناك ما يُسمى بالتحضير الجاهز! لكنه لم يدخل بيتنا يومًا، في ذاك الوقت، غاب عني السبب، كنتُ أتعجب من إصرار أمي -حفظها الله- في استمرار الكتابة بيدها، تكتب الأهداف، والأدوات … كما أفعل الآن! الآن علمتُ يقينًا ما يورثه الدرس الذي لم أحضّره بنفسي، لم أقف عليه وقتًا طويلًا، لا يفهم هذا المعنى من لا يملك شغف التعليم، من تهون عليه الساعات الطّوال للقراءة، لأجل نصف ساعة– فترة الحلقة في رياض الأطفال- ، يضيع أكثرها في توجيه الصغار، لتقديم مفهوم أو قيمة.. أُشابه أمي- رزقني الله برها- في أشياء كثيرة..
[٥]
كانت مُعلمتي تُعطيني قيمًا كثيرة، أكثر من الدرسِ نفسه.. من بين ما علمتني إياه، أن أُحسّن خطي، عند كتابتي للملاحظات، عند أي كتابة للعلم، فإنني لا أدري من سيُمسك بكتابي لاحقًا! قالت: قد يصبح ما تكتبينه منهج يُدرّس! الفكرة في أوّلها مُخيفة. .لكنها على الحقيقة حاصلة! .. تذكرتُ إحدى الصديقات لما طلبت مني يومًا تحاضير قديمة لي، أرسلتها لها دون مراجعة، بعد فترة من الزمن، هاتفتني: “إيناس أبشرك تحاضيرك وصلت لأمريكا وصاروا يدرسوها في المدرسة العربية”!! حدّثتُ نفسي: “ياريت راجعتها وحسّنتها”.. يهبك الله فرصًا فلا تضيعها. أحسن البداية، تُحسن لك النهاية.. وعَن مُعلمتي، أخبرتني بأن كثير من أمهات الكتب، لم يخطط مؤلفوها لأن تُنشر، كانت مُلاحظات ودفاتر خاصة بهم، وبعد وفاتهم، حُررت ونُشرت.. جوّد ما تقدّمه، لا تقدم درسًا كأنه درس والسلام! قدّمه وكأن أحدًا في العالم لن يُعلمه سواك، قدمه وكأن كل من أمامك، هم أبناءك على الحقيقة.
[٦]
تذكّر دائمًا بأن الله مُتمُّ نوره، ولو كرهت! ولو تعبت، ولو أُرهقت، ولو أُحبطت، الله مُتمُّ نوره.. هذا وعد من الله، فلا تتنازل عن دورك كمعلم، إذا كان أصحاب المبادئ والقيم استغنوا عن التعليم إما على الحقيقة، بتغيير وظائفهم أو استغنوا بطريقة مؤسفة جدًا.. هو معلم، لكنه لا زال يجيد التلقين! فلمن نترك هذا الثغر؟ نحنُ معاشر المعلمين على ثغرٍ عظيم.. فاللهم ألهمنا من أمرنا رشدًا، واجعلنا أهل لعظيم تسبيح مخلوقاتك لنا.. سددنا في القول والفعل، خفّف عنا أعباء التعليم، اهدِ من هُم في قلوبنا قبل أيدينا، أعنّا يارب كل المعلمين أن نقدّم كل شيء على الوجهِ الذي يُرضيك، واجعله خالصًا لوجهك الكريم، لا نبتغي به مرضاةً لمشرفٍ ولا لمدير.. قوّنا وقوّ بنا، اجعلنا هُداة مُهتدين، ارزقنا قلوبًا عظيمة… تستوعب كل المشاق والأحمال، كل هموم الصغار.. اللهم كما أدخلتنا للتعليم مدخل صدق، فاخرجنا منه مخرج صدق، بعد تمام نورك، وتمام الرسالة وأنت راضٍ عنا غير غضبان، واجعل لنا من لدنك سُلطانًا نصيرًا، والحمدُ لله ربّ العالمين
12 تعليقات
(❤️).
وأنا ماكنت أعلم عن التخصص شيئًا.
عرفته من حديث إحداهُن لصاحبتها فأثار فضولي وسألت.
الحمدُ لله كثيرًا
هذا فضل الله يؤتيه من يشاء
الحمد لله كثيرا!
الحمدُ لله ما تعاقب الليل والنهار!
اللهم ارضنا بتخصصنا وبارك لنا في اعمالنا
وأكرمنا بجزيل العطاء
جزاك الله خير نوسة ( لا فضَّ فاك )
رحم الله والديك ♥️
اللهم آمينًا، لكل ما دعوتِ به
ورحم والديك وجميع آباء المسلمين
مزيّة المعلم على غيره أن فضله ممتد إلى تخريج وبناء عقول وعبقريات أخرى، وهذا يذكرنا بقول الحافظ ابن حجر في حديثه عن مناقب ابن تيمية : ”لو لم يكن لابن تيمية منقبة إلا ابن القيم لكفاه” بحر من ذاك المحيط .
جزى الله معلمينا الأكارم خيرا، وحفظ الله لك إيناس الحبيبة قلمك الأنيق وحرفك الماتع💗
الحمدُ لله كثيرًا ..
الله يظهر الجميل ويستر القبيح
الحمدلله الهادي الحمدلله مدبر الأمر الحمدلله ونحتسبه علماً ينتفع به💚
يحفظك ربي 💚
يا رب
هذا رجاءنا في ربنا
لم أجد تعليقاً يليق بالفكرة المطروحة، ولا الكلمات الراقية وصاحبتها غير أن أدعو الله لكِ بخيري الدنيا والآخرة فجزاك الله خير الجزاء وزادك من فضله ونعيمه.
وكم تمنيت حقيقةً أن يرى جميع المعلمين هذه الكلمات لعلها تلامس شيئاً في نفوسهم وتشحد فيهم الهمم للعطاء، أو فلنقل قد تُصحح من مايملك البعض من معتقدات.
دمتي مبدعة
هذا من فضل ربي
اللهم زدنا علمًا