هذه التدوينة، غير قابلة لأنْ تقرأها متعجِّلًا، غير قابلة لكتابةِ مقدِّمات!
بينما الجميع، يعملُ كعادتهِ، على قدمٍ وساق، فواحدة تُخطّط، وثانية تسدّ فراغ صديقتنا المتغيّبة، في روضَتي، روضتنا، كلّ مشغول، كلّ مُنهمك في شغله، كثيرًا ما يحدث أن تلتقي الأجساد، ونفترق في مواطنٍ كثيرة! لكنَّ شيئًا واحدًا يجمعنا، كلّنا مشغولون بإعداد الإنسان. أكثر من مائة طفل في روضتنا، ينتظرونَ منَّا الكثير، ينتظرون الماء العذب، لتنبتَ بذورهم، فنسعد برؤية براعمهم، أوراقهم، ولمَّا نشيب، يبلَّغنا المولى، ثمارهم، ولربَّما- وكلّي ثقة بالكريم- بأنّه سيكرمنا ليس فقط لنَرى تلك الثّمار، بل سيمتدّ كرمه، لنكن أوّل مَن يتذوقوا حلاوة تلك الثمار!
بينما يمضي يومنا، كأمسنا، غير أنّنا نتعهّد ماء عطاؤنا بتجديدهِ، حدثَ ما لمْ يكن بالحُسبان! قدَّر الله، وحدث ما حدث، اُضطررنا لتخلية المَبنى، في أقلِّ من ليلةٍ وضُحاها، تبدّل نورنا ظُلمة، وسرورنا حُزنًا! انتقلنا لمكانٍ آخر، مكان لا يُشبه روضتي، وأُناس لا يشبهون أطفالي، حتّى كراسيهم المُرتفعة، لا تُشبه كراسينا الصغيرة! ألوان أثاثهم القاتم، لا يُشبهنا أيضًا! كان أوّل شعور قذفه الله في قلبي: أنّنا افتقرنا بعد غِنى! لوهلةٍ، أصبح قلبي لاجئ! قلبي الذي كان يملك الكثير من الأشياء، اليوم، أصبح محتاجًا لمأوى مادّي وروحي…
استقبلنا الغير ببشاشةِ وجه وسلامة صدر، لكن، شيء في القلبِ لا زال، عصيّ على أن يخرج! صارتْ مهمتي، ومهمّة كل معلمة، كل إدارية، هي: التأقلم مع الوضع الجديد، وبأسرعِ وقتٍ مُمكن!
اللاجئ في الحقيقة، كان يمتلك كلّ شيء، فجأة ولأسباب قدّرها الله له، يفقد كلّ شيء، فيذلّ بعد اعتزاز، بعد أن كان يشعر بالشّبع الروحي، يعتادَ قلبه على الجّوع، دون أن يهنأ بلُقمة روحية، تُقِم نبضه، وهذا ما حدث معنا.
من بينِ المئات من الأشياء التي نمتلكها، وملّكنا الله إياها، في روضتي، كان الخَيار صعبًا بأن نتخيّر الأكثر حاجة إليه، ونقلهُ لحيثُ انتقلنا! ماذا عن بقية ما أملك؟ أساسًا لا أعرف كيف يختار المرء من بين أملاكه ويُفاضل بينها؟! نحنُ الذين ملّكنا الله كلّ مقوّمات الحياة، ويوم أن تُسلب نصف واحدة، نتوه ونتخبّط!!! آنذاك، كُشفتْ لي سوءة جديدة من سوءاتي! لا أُتقن اختيار الأهم! فكل شيء أملكه، في نظري، فإنّي أحتاجه، يحتاجُ قلبي رؤيته، ولو لمْ استخدمه!
على ما يبدو مرّ الأسبوع الأول، بصعوبةٍ بالغة، إلى أن اعتدنا الوضع، ألِفنا المكان الذي أُعيد تأهيله ليكون مناسبًا لنا ولأطفالنا، ألِفنا الشخصيات الجديدة الذين كنا لا نراهم إلا مرّة في العام، ألِفنا رؤيتهم كلّ صباح، ألِفنا الاشتراك في الأدوات، المشاعر، أشياء كثيرة… امتدّ هذا الأمر لأطفالنا، اعتادوا أشياء كثيرة.
في كلّ مرة كنتُ أجهّز ما سأعلّمه الأطفال مختلفوا الأعمار، الملتقون في مكانٍ واحد! وهذا من بين ما ألفناه طبعًا! كان يخطرُ على بالي اللاجئ مرّة أخرى، خطرتْ على بالي تلك الصور التي كنتُ أراها على هاتفي فقط، مدارس مُهدّمة، ومعلمة معطاءة لا تجد ذلك الرُكام، عُذرًا لإيقاف العلم! فاستيقظْ من شعوري بأشياء كثيرة، أتذكر مقوّمات الحياة، وفقداننا للمكان فقط! أحدّث نفسي: ستُكملين عطاءك، ولو لصغيرٍ واحد! ليس هذا فحسب، بل تُعطينه بحبّ كبير!
تعلّمنا مهارات كثيرة، تعلّمنا كيف أنّ كل ما نحتاجهُ، مساحة فارغة، بلا أثاث، لنفكّر كل يوم كيف نملأ هذا الفراغ بمتعة جديدة، اختلفتْ مُتعنا وكان ما نملكه أداة واحدة: روح مؤمنة. تؤمنُ بكلّ شيء، وتظنّ في الله خيرًا، تصبر وتصبِّر، وتُصابر. في مواقفٍ كثيرة، كان حالي، حالُنا، ينطبق تمامًا، كما قال تبارك وتعالى: ” إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها” .
كنّا نرى روضتنا، نمرّ من بابها المُغلق، وقد نشمّ رائحتها، تلك الرَّائحة التي لا يعرفها ولا يميَّزها إلا من عاش في حِجرها، نرى انطفاء أنوارها، وخلوّها من المارِّين، كنّا نرى كل ذلك، ولا نستطيع دُخولها، لم يعُد بالإمكانِ فعل أشياء كثيرة، كنّا في السّابق نفعله بلا أدنى تفكير، مرّة أخرى خطر على ذهني، تلك الدار القاصية، الدَّانية ، القُدس، المسجد الأقصى، يا الله الآن لا أشعر فقط، الآن أعيشُ ما عاشهُ المقدسيين! ترى وطنك، دارك، لكنك مضطر لأن تبتعد.. قد تكون تصلّي فيه كلّ يوم، لكنّك لا زلت ترى أنّه محتلّ، ثمّة أحد يجبرك على أن تخرجّ وتعود لتكن فارغًا، بعد أن كانت أشياء كثيرة تملؤك.
بعد مرور شهر على هذا الحال، اجتمعتُ ورفقتي، ذهبنا لعمل جولة في روضتنا، دارنا الدافئة، التي وإن أُكرمنا في غيرها، فإننا لا نُريد سِواها، مررنا على السَّاحة الخارجية، مررنا على أشياء كثيرة، افترقتُ عن مَجموعتي لأجدَ أحواض الزَّرع التي ابتدأتُ زراعتها مع أطفالي، تذكرتُ وعدي لهم بتعهدنا بسقايتها، شوّقتهم لرؤية مراحل انبات الله لهذه البذرة، ها هي اليوم حصيدًا كأنْ لم تغنَ بالأمس…
خرجنا من جَولتنا، ولم نكن نعلم بأنّ تلك الزيارة- والتي كنّا نراها من حقنا!- سنُسأل عنها!! حين سألتْ مسؤولة الأمن صديقتَاي عن سبب تواجدنا في هذا المكان؟! هَول صدمتي جعلني ألتزمُ الصَّمت! الذي يحملُ أسئلة كثيرة، وصور للمرة الثالثة يستحضرها قلبي، كيف نثبتُ لهم أنّ هذا المكان لنا؟ كيف نُسأل عن حق هو في الأساسِ لنا؟ يا الله!
تختتم تلك المسؤولة إخبارنا بعدم حضورنا مرّة أخرى، وبأنّها ستتخذ إجراءَ آخر لو تمّت مُشاهدتنا مرّة أُخرى!!! في تلك اللحظة بالذّات، كان قلبي يقبّل جبين كلّ مقدسي، عاش في أكنافِ الأقصى، عاشها قبل النّكبة أو بعدها، لا مهمّ، المهمُّ هو صبره على إزالة أشواك الوجع في كلّ مرّة يأتي فيها لأقصاه، يصليها زائرًا، غريبًا عنها، يطرده جنود الاحتلال، لكنّه يعتاد المجيء؛ شيء فيه يحرّكه لأن يكون وفيًا صامدًا حتّى الرّمق الأخير.
هذه الحوادث الصغيرة في حياتك، يقدّرها المولى لقلبك، ليعيشها، يحفر مفهومًا، ويؤكد معنىً، فيزيد إيمانك بمبدأ، تغيّر قناعة، ثمَّ تتَتبّع هذه الحادثة الصغيرة، لتراها في جِراح أمَّتك؛ لترى حينها، كيف أن النُّور كان مُلازمكَ، لكنّك كنتَ تُغطيه بكفيّك!
اللهم أعدِنا للأقصى فاتحين مُحرّرين، وافتح لَنا أبواب رحمتك، وأعد لتلك الدار، روضتنا، نورها الوهَّاج، وردّها لنا ردًا جميلًا. اللهم وكمَا أنَّك أدخَلتنا مَدخل صِدق، فأخرِجنا مخرج صدق، اخرجنا من مآزق الحياة، بلطفك وكرمك، واجعل لنا من لدُنك سلطانًا نصيرًا، وآخر دعوانا: أن الحمدُ لله ربَّ العالمين.
7 تعليقات
😢😢😢
ياااارب
كنت اقرأ وعقلي يستحضر صورتك عند سؤالك .. هوا ممنوع نروح؟؟؟
اسأل الله تعالى أن يمن علينا براحة القلب وييسر أمور روضتنا
ويفرج لنا كل ضائقة
أكثروا من الاستغفار وسيعودكل شيء أفضل مما كان عليه.
ربما كان هذا أفضل ما حدث لنا! أن نعرف أن الله يسخر لنا أناس وأماكن ما كانت في الحسبان.
الحمد لله أن الله ربنا وكفى.
آه يانوسة القلب 😔😔💔
اشكر الله وازيده شكراً ان جعلني من ضمن افراد تلك الدار الجميلة وحظيت بصحبة اناس يعرفون قدر وقيمة الطفولة ولا يكتفون بذلك بل لديهم ذلك الشعور بالانتماء والمحبة للأشخاص وللمكان 💕
اللهم ردنا الى دارنا سالمين ورد الاقصى للمسلمين ❤️
موضوع جميل يستحق تقدير
أحداث عشت تفاصيلها على أرض الواقع، واستشعرت بعد قرائتي لكلماتك فضل ولُطف الله الذي يُحيط بنا من كل اتجاه ..
وانشغالنا عن شكر نعمه فاللهم كما رددتنا بفضلك وجودك لروضتنا ردنا إليك رداً جميلاً ..