السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل جرّبت أن تكونَ متقينًا من شيء فيك؟ كيقينكَ بتمكّنكَ بكتابةِ اسمك! يمضي العُمر، ثمّ يُبدي لك المولى، أن يقينكَ ما كان بيقين ياصاح! يُبديها لك، وحقيقة أنك (مُتيقن) قد تجذّرتْ فيك. ماكان فيكَ بِضعًا من عُمرك، كنتَ تظنّه ظنًّا!
والظنّ ياصاحبي أكذب الحديث! كما قال نبينا المُصطفى، صلوات الله وسلامهُ عليه.
ماذا يعني أن تظنَّ؟
يعني أنك لستَ بجازمٍ، تجاه أمر ما، يعني أنّك تشكّ بهذا الأمر.
يقول صلّى الله عليه وسلم: “اجتنبُوا كثيرًا من الظنّ، إنّ بعضَ الظنّ إثم“. قامت حياتنا على (بعض الظنون) فأهلكتنا، والله المُستعان!
يقول تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [يونس:36]
افعل ما شئتَ، في النهاية، كُن على (يقين)، أن ظنّك، في كثيرٍ من أمور حياتك، وفي النَّاس، لن يُغنيك ياصاحبي، ستعرفُ ولا ريب ماكان خافيًا عنك، الحقّ الذي غاب عنك، أو غيّبته بصنائعك! أيًا كان السبب، ذلك الظن، القشرة الهشّة، لن يكن لها مصيرًا إلّا أن تتمزّق، شرّ تمزيق! سيمزّقها سطوع الحق، على حين غفلة من صاحبها، منكَ أنت.
الظنّ لا يعمّر في الإنسان طويلًا، كتبَ الله له أن يكونَ قصير الأمد. بعد ظهور الحقّ، قد يستمر الإنسان، في ظنّه، مُتغاضيًا عن كلّ آيات الله فيه! يُغمض عينه ويُطأطئ قلبه رُغم كل البراهين، بالأكاذيب التي فرضها، وصدّقها، فعاشها.. لا يهمّ ماذا تفعل بعد تكشّف الحق، المهم أن الحق في نهاية الأمر، سيُظهره الله، رغمًا عن كل ظنونك، وادّعاءاتك، وماتفعله، شأنك وحدك، فافعل ما يحلو لك، فإنّما هي صحيفتك، فاملأها بما شئت ياصاح!
للحظة فقط، انسَ حديثنا عن الظن، دعني أحدّثك عن صورة، عن موقف، عن بداية مُشرقة، ونهاية غير مُتوقعة! هَب أنك تقفُ في بُقعةٍ من أرضٍ تحبها، هذه الأرض، دون غيرها من الأراضِ، كتب الله لها القبول لقلبك، أكرمكَ الله بعطاياه، اعتلتْ غيمات رمادية فوق أرضكَ التي تُحبّ، فعلمتَ بأنها ستُمطر! المطر يعني النَبت، تزيّنت أرضك، اخضرّت، تعلّقت بها أكثر! لم تنتهِ الحكاية، حتى الآن، بعد اكتمال حُسن صورة ماتحبّ، (ظننتَ) أنه بإمكانك رعايتها، بإمكانك فعل كلّ شيء لها، فجأة من أيامِ عُمرك، يأتي لهذه الأرض، مالمْ تتوقعه، يأتيها أمر الله، في وقتٍ لا تعلمه، ولا يهمك في أيّ وقت جاء الأمر، المهم أنه جاء! فغدت حصيدًا، عادت كما كانت، قاحلة، جافّة، متشقّقة، كأنها لم تكنْ من قبل، غنيّة بالخُضرة، غنيّة بالجمال، غنيّة بك واغتنيتَ بها!
يصف الله لنا هذه الصورة، في سورةِ يُونس:
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ…)[25]
بدأتْ المشكلة، لما ظنّنا أننا قادرون على إتمام أشياء كثيرة، على ترك ذنوب كثيرة، ولأن المَسافة طالت بين الذنب وآخر عهدك به، ظننتَ أنك تخلّصت منه، أرأيتَ كيف أن تلك الأرض، اجتمع لها الحُسنيين، زُخرف وزينة! وكذلك أنت، يجتمع لك في أمرٍ من أمور حياتك، ما يجعلك تبتهج، فغيركَ محروم، وأنت في منّة،فلما أتاكَ أمر الله، أمر الله كان لتلك الأرض بأن يُقضى على أخضَرها، زرعها وشجرها، فكان هلاكها، أمر الله فيك، لذلك الأمر الذي اجتمع فيه لك، مالم تطلبه من الله، لكنه أكرمك، يكون بأشياءٍ كثيرة، المهم أنه لما يأتي أمر الله، يكن كصخرة ضخمة، تُلقى على قلبك، فلا تقضّ مضجعك فحسب! تقضّ فيك معانٍ غابت عنك، وأُخرى كان بحاجة لأن تُفتتها تلك الصخرة، لتُعيد ترتيب قلبك بعد وقوع تلك الضخمة عليه.
الرّائي لقلبك بعد وقوع الصخرة، بعد أن أتاه أمر الله، لا يصدق بأن قلبك كان غنيًا بأشياء كثيرة، كان يسمعها عنك، أو يراها فيك، ما يراه فيك الآن، الفقر، الضعف، الضياع والشتات، كأنك لم تكن غنيًا بالأمس، فكل غنىً فيك، يفقر، و كل قوّة فيك، تضعف،و كل شروق فيكَ يغرُب، و كل انبساط فيك، يُقبض، و كل حاضر فيك، يغيب..
كأن قلبك لم يغنَ بالأمس، ذلك الأمس الذي قد يكون سنين من توبتك، عُمرًا من فعلك للصالحات، لمّا يأتي أمر الله، تموت كل سنينك الجميلة، يُصبح قلبك للحظة، قاحلًا ، حصيدًا، تمامًا كتلك الأرض، التي حصدت، بعد زهوّ!
“اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك”[ابن هشام 1/ 420]