السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أراها تسير بين النّاس، تُصلِح، تُرمّم، تُطبِّب، أراها زهرة، أراها ماء عذبًا، أراها عودًا غضًّا، لكن كثُر الذين سلبوها كل ذاك! سلبوها جمالها وخيّريتها التي أودَعها الله فيها، لم تَعد بذات المنزلة في المجالس، ولا في الصدّور، خفُت بريقها، وبَهتت ألوانها، وماكان هذا، إلّا لإجحاف من حولها، لها، فإن جاء الحديث عنها، كان نصيبها، نصيب إنكار المُنكَر بالقلب… أضعف الإيمان، وهي- لعَمري- الإيمان كلّه.
يحدثُ كثيرًا، أن يتردد على مسامعك، من يقول لك، بينما أنت “تتكلم” مع أحدهم، لن ينفع الكلام! أنتَ تتكلّم، كما تكلّم كل الأنبياء مع أقوامهم، تتكلّم، كما تكلّم الله جلّ جلاله مع موسى عليه السلام، تتكلّم، لأن الكلام رأس مالك في كلّ أمورِ حياتك، أنت تتكلّم، لأنّ أشياء كثيرة تبدأ بالكلام، والأفعال قرينتها ومُتمّمتها، وبعد كلّ هذا، تجدُ من يقول لك: ” لن ينفع الكلام”! قد لا يُجدي الكلام، في وقتي ووقتك الحاضر ياصاح، نقول كلماتنا اليوم، وننساها في نهاية ليلتنا، ويذكُرها ربنا في كتابٍ، لا يضلّ ربي ولا ينسى، يتولّى الصادق منها، يُنبتها نباتًا حسنًا في قلب من أودعناها فيه، يجعل الله لكلماتنا الصادقة من يكفلها، كما كفَل زكريا عليه السلام، مريم! الله يهيئ لكل كلمة، من يكفلها؛ حتى تنشأ نشأة صالحة، عندها.. تؤتي أكُلها.
“ندخُل الجنّة، بكلمة (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين).
الإسلام، دخلناه بكلام (أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله)
د. سلمان العودة
من ملّكه الله ملَكَة حُسن الكلام، فقد ملّكه خيرًا عظيمًا، بالكلمة، تستطيع فعل ما لا يستطيع فعله أيّ شخص آخر، ليس لقوّةٍ ذاتية منك، إنّما بفضل تلك الأحرف التي أنزلها الله، ووهبك القدرة على إعادة نسجها وابتكار طُرق جديدة لحياكتها، فينجذب من حولكَ لها، فتحرّك فيهم معنىً راكدًا، وتُحيي ما أوشكَ على الضمور، تُنقذ غرق الإيمان في القلوب.. تفعل أشياء كثيرة، بكلمةٍ واحدة، ووالله أنك في أحايينٍ كثيرة، كنت قد تفوّهت بكلماتٍ جمّة، لم تلقِ لها بالًا، سوى أنّها كانت نقية، صادقة، فأبكتْ من حولك، يحدّثونك أنهم بحاجة لك! تقول لهم أنك المُسيكين ولا حيلة لك، تمامًا كحالهم، لكن… يعلّمك الله أن طوق نجاة الكثير كانت … كلماتكَ الصّادقة.
الكلمات الصادقة، ليستْ حصرًا على الكتّاب والكبار من الأنام، إنّها مُتاحة للجميع! قد تجد كلامًا أدبيًا مُصاغًا بمفردات تحتاج لقواميس تفكّ لك شفرته، لكنك بالكاد تجد قشور صدق زائفة، بينما تذرفُ عيناك دمعًا، من كلماتٍ مصاغة بطريقة عادية جدًا، وما أبكاك إلا لأرطال الصدق لصاحبها! هذا النوع من الكتابات الذي أحتاجه، وتحتاجهُ أنت، وهوَ حقّ لكل من يحتاجه منك في أوقاتٍ من حياته.. تلك الأوقات التي يحدّثك فيها أحدهم، يحدّثك وأنت تفكر كيف يمكنني مساعدته؟ مع يقينك بأنّك لا تملك أدنى حيلة، لمساعدته، أقول لك: ثبّت أركانه بالكلمات.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يَا حَسَّانُ اهْجُهُمْ ، وَجِبْرِيلُ مَعَكَ ، وَقَالَ لِي : إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةٌ , وَقَالَ : إِذَا حَارَبَ أَصْحَابِي بِالسِّلاحِ فَحَارِبْ أَنْتَ بِاللِّسَانِ ” صحيح البخاري
حسّان بن ثابت- رضي الله عنه
ازرع أشجارًا طيبة، أصلها قلوب الناس، ودَع فروع تلك الأشجار الوارفة، تمتدّ، وترفل بالنموّ، دون أن تخطط لمسارِ نموّها، فقط تكفّل بسقايتها كلّما سنحتْ لك القلوب بذلك ، وسيُدهشك الله بطيّب الثمر، إن لم يكن لك، سينعم غيرك بالثّمر، وسيصلكَ حتمًا ولا ريب، الأجر.
“أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ” [إبراهيم: 24]
الأم، المعلمة، وكل مربّي، بحاجة للكلام، لكن تخيّر ما ستتكلمه… وكُن على يقين بأن ما ستقوله اليوم لهم، بشكلٍ أو بآخر، سيُقال لك.
بالكلام، تُنصر القضيّة، أو تُخذَل. بالكلام، تُسلب الحقوق، أو تُستردّ. بالكلام، يحبّ بعضنا البعض، أو نكره. بالكلام، تتجمّل الحياة، أو تُستقبح.
سيُجدي الكلام..
لازلتُ أذكر أجمل الكلمات التي قيلتْ لي، خلال سنواتي الدراسية، أذكر معلمتي في الابتدائي، لما كانت تقول لي بأنّي حسنَة الخطّ… معلمتي في المتوسط، كانت تأخذني من منتصفِ الحصص؛ لأقضي معها بقية اليوم نعدّ لوحاتٍ جميلة، وكانت تُسمع قلبي جميل الحديث عن رسومي! معلمة الأحياء في الثانوي، أكثرتْ مدحي على دفتري الخاص بالمادة، اعتنائي برسوم المادة وتلوينها نال إعجابها، وفي الجامعة.. قصص لا تنتهي من جمال الكلمات التي كتب الله أن أعيشَ جمالها وصدقها من أستاذات، أستاذة الثقافة الإسلامية، كانت في القاعة ما يفوق الستين طالبة، لكنّ ذلك لم يثنيها على أن تبحث عني، لتقل لي كلمة صدق، لازال قلبي يذكرها.
لا أحب الاحتفاظ بالأوراق، لكني لازلتُ غير قادرة على التخلّص من كل ورقة كُتب فيها كلامًا صادقًا، تكاليف مواد ماضية لاتعنيني، ولا أظن أنها ستنفعني، بقدر ما سينفع قلبي، كلماتهن الصادقة، التي… لم يلقينَ لها بال.
سيُجدي الكلام ..
تغيّبتْ سجى، سألتُ والدتها بعد يومين عن سبب غيابها، قالت وهي تضحك، بينما ظلّ الموقف عامين في قلبي، قالت بأنها رفضت المجيئ للروضة “عشان معلمة إيناس ماقالتلي صباح الخير، لما دخلت الفصل” هذه الصغيرة تبلغ من العُمر، ثلاثة أعوام! حتى القلوب الصغيرة، تتعطش للكلمة الطيبة!
ومن غير الكلام، لن ننعم بالسلام..