♪ ♫
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يُصيب الإنسان مرات ، ويُخطئ ضعف المرات التي يُصيب فيها . في المرات التي يُصيب فيها ، يكتفي بنشوة الإصابة ، ينشر ما توصّل إليه ، يستقبل التهاني ، يحفلُ بإنجازه – أكتب هذه الكلمات ولا يحضرني مثال أدعّم به قولي – لكن هذا ما يحدث في كل مرة يُصيب فيها الإنسان قولاً ، رأياً ، عملاً . كل تلك الحفاوة التي بدتْ له ، تجعله منتشياً لوقت ليس بقصير ، انغماسه في الانتشاء بؤهله لأن يتقاعس عن أن يُصيب في شؤون أخرى ، كما المرة السابقة ، القليل من يُبادر ويستمر .
وعلى النقيض ، حين يُخطئ الإنسان ، إذا جهر بما فعله ، غير مبالِ بما قد يشعر به الآخرين ، أو قُل إنه يرى بأن الخطأ الذي ارتكبه ، كما يصفه له الآخرين ، هو حق للإنسان أن يعيشه ، بالطريقة التي يُريدها . لذا فهو يستمر بالارتكاب ، بالانزلاق أكثر من ذي قبل . ذلك الانزلاق الذي يؤلم من لا يستطيع منعه ، إيقافه من أن ينحدر أكثر ، من أن يكون قصياً من القمة ، من أن يدنو من القاع أكثر ! كل تلك الأشياء التي قد يمرّ به من حوله ، ولا يفصحون له بها ، أو قد يفصحون له ، قد يشفق لحالهم ، لكنه عاجز من أن يوقف السّرب .. سرب الأشياء التي يراها عادية جداً ، لكن الآخرين يصفونها بالأخطاء .
كل شيء يمرّ فيه المخطئ هو مؤقت ، متعته ، شهواته ، حتى إشفاقه على نظرة من حوله له وعدم قدرتهم على صدّه من الانجراف ، لكن شيء واحد هو من يبقى لأمدٍ طويل ، كالحبل الذي ترى أوله ، وتعجز عن الوصول لآخره ، مهما حاول المخطئ أو المصيب الوصول للضفة الأخرى للحبل ، لن يفلحون ، السرّ في حجب الطرف الثاني هو : استمرارية الرغبة في العودة والتشبث بالحبل مهما انزلقت يدا الإنسان عمداً ، أو قسراً.
العَودة ، هي ما تبقى ، حين تفنى كل الملذات التي يلهث خلفها الإنسان ، أعني بالعودة ، أن يتدارك الإنسان حاله ، دُنياه التي تنفرط من بين يديه ، ملذاته التي خدعته حين وعدته بأنه إذا استسلم للأولى بأنها ستخمد ، لكنه اكتشف متأخراً بأن انجرافه للأولى ، أدّى إلى تناسل البقية وتكاثرهم . لا تأتي العودة بين عشيّة وضُحاها ، ولكنها أيضاً لا تأتي للصالحين فقط . لا تأتي لمن يقرّ بأنه مُذنب ، هالكٌ في حياته ، لكنه مستمرّ بما يفعل . لا تأتي العودة لمن يتمنّاها تمنّي العاجز . إنها تأتي لمن يقرّ بأن حياته لا تسير بالشكل الذي يُرضيه ، عقُب إقراره بخطوة يأخذها ، مهما كانت الخطوة الأولى التي اتخذها ، لكنها جادة ، وافقتْ تلك الخطوة قول الله تعالى ( إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا مابأنفسهم ) ، الخطوة هي بداية إمساك الإنسان بالحبل ، وبداية عقده لهُدنة دائمة مع ( العودة ) كلما أخطأ ، كلما انغمس في هذه الحياة المليئة بما نرغب وتجبرنا أهواءنا على أن ننغمس أكثر وأكثر .
العودة هي الحبل المتين من الله للإنسان ، هي الحبل الذي نعلم بدايته ، ونجهل نهايته . حين نعود لله وكل شيء قد أصبح فينا على عكس ما أمسينا عليه ، حين نكتشف بأننا قد فُتنا بأمور الدنيا التي كنا لا نقبلها بالأمس ، حين يرحل الحبيب ، ويهجر الصديق ، ويطعن القريب ، حين تكون معاني البؤس والشقاء هي كل الحياة في عين الإنسان ، يُرسل الله العودة إليه ، إلى أن يرجع ليس بالضرورة للطريق الأكثر صحة ، والأكثر صلاحاً ، لكنه يجعله الأقرب للإتزان . العودة بعد كثرة ما مررتَ به ، لا تعني أن تعود بلحيةٍ وثوب مُسبل ! لكنها تعني بأن الله في معيتك ، إذا تعثّرتْ فإنه سيقيلك ، لأن الخطوة الأولى جاءت منك ، وبعدها جاءتك الأمور تباعاً .
مريم عليها السلام ، رغم حب الله الشديد لها ، واصطفاءه لها من بين كل خلقه ، هيأ لها كل شيء ، دون أن تطلب منه ذلك ، لكنه ترك لها الخطوة الأولى ، لتنهال عليها الرحمات بعد ذلك . ( وَهُزِّي إِلَيْك بِجِذْعِ النَّخْلَة ) في ألم المخاض ، والوحدة ، في الكرب الذي هي واقعة فيه دون أن تعلمَ لذلك سبباً وتفسيراً ، لم يكن مما حدث لها بعد ذلك ، لولا إلهام الله لها بأن تهزّ النخلة ، بأن تأخذ الخطوة الأولى .
العودة واضحة لمن اعتاد التشبث بها ، لكنها لا تعني شيئاً لمن لم يجربها ، لم يتشبث بحبالها ، ليس لأنهم لا يريدون ذلك ، لكن ببساطة لأنهم لا يدركون بأنه بالرغم من كل السوء الذي أضحت بها حياتهم ، كل الأخطاء التي ارتكبوها ، واعتادوا على فعلها ، كل الأشياء الكبيرة التي يشعرون بأنهم سيصلون إليها . . لا يدركون بأن الحبل يتسع للجميع ، هو ممدود لهم ، ينتظر بأن يمتطوه ، هم وكل ما فيهم من أثقال ، سيحملهم ، ويمسحُ ما على قلوبهم ، ومن بلواهم ، يُنجيهم .. دون أن يخذلهم ، دون أن ينقطع .
حين تعود لله ، تشعر بأن كل شيء قد عاد إلى مكانه ، الفوضى التي كانت في قلبك ، وكنت تتجاهلها بتصرفاتك التي لا تجدُ لها تفسيراً ، لكنّك تدرك بأنك في كل يوم تتجاهل فيه بعثرة ما أنت فيه ، للحدّ الذي يجعلك تمشي على أطراف أصابعك ، لكثرة ما سقط عليك ، لم يعد هناك متسع لأن تسير بشكل مستقيم . حين تعود إلى الله ، وتشعر بأنّك تقفُ على طرفِ شعرة رفيعة جداً ، وبأن ما حولك هواء ، تحاول أن تتزن ، تفرد يديك ، توازن جسدك ، لكن لا شيء مما ترغب به ، يحدث .. يجعله الله ممكناً إذا عُدتَ إليه . ولا بأس إذا أخطأت مرات عديدة ومتتالية بعد أن قد أعلنتَ عودتك إليك .
حين تعود لله مرة واحدة فقط ، وتمرّ عليك الأزمان ، وتتوالى عليك الأقدار ، ستعلم بأن هدنة دائمة قد عُقدت منذ زمن ، تلك الهُدنة التي تجعل قلبك في مأمنٍ دائم ، من أن تنتكس أكثر ، من أن تجعلك أخطائك تؤمن بأن لا طريق للعودة ، لذا توهمك بأن الحل هو أن : تنجرف أكثر ! لا أدري كيف يغيب علينا أحياناً أن نعود لله ؟ رغم يقيننا بأن كل مفاتيح الأبواب الموصدة لحياتنا ، عنده . لا أدري كيف يجيء لطف الله ، فيُلهمنا أن نعود ، رغم وسوسة الشيطان بأن لا ملاذ من الوحل ؟ أشياء كثيرة لا أدري كيف لا تخطر على بالنا ، أشياء كثيرة نفعلها ولا ندري لماذا نفعلها ، كيف تجرأنا على فعلها ، وأكثر ما يحيرني ، هو سحر ( العودة ) تلك التي تجعلك تنتقل بشكل لا تعلم كيفية حدوثه من حال لحال ، من حال العاجز الذي يرى أشياء كثيرة يفعلها حوله ، ويرغب بإصلاحها ، رغم أن هذا العاجز هو مذنب في أمورٍ أخرى ، لكنّ شيئاً ما في داخله يؤلمه لرؤية ما لا يرغب في رؤيته . فسبحان من جعل العودة إليه هي استغفار وتسبيح ، هي صلاة على النبي عوضاً عن كثير دعاء ، فيكفي الله الإنسان العاجز ، ما أهمّه .
هذه التدوينة لكل الذين رغبتُ في أن أساعدهم ولم أتمكن ، لكل الذين يُعانون لأسباب مختلفة ، وأودّ لو بالإمكان أن أهوّن عليهم ما هم فيه ، لكنني لم أتمكن أيضاً ، لكل المنتظرين لمعجزة تنتشلهم ، لذلك الذي لا أعلم له طريقاً ، إليه أكتب كلماتي .. هُدنة مع العَودة ، بها يحصل الهناء .
6 تعليقات
لماذا لا نعود إلى الله ؟
لأننا نجهله … كيف أقولها بعيدا ً عن ابتذال؟ ..ممم .. نحن حقا ً لا نعلم من هو الله يا إيناس .. لدينا تصوّر عنه … و هو في الغالب خاطئ ..
لذلك قبل أن نتمسك بحبل ٍ لا ندري أين طرفه الآخر , لا بد أن نذهب لنعرف من هو الذي سينتشلنا , نحبّه , نثق به , نتعلق به و بحبائله ..
فكرة جهلنا بالله هي ما يرهقنا حقا ً .. هي ما تجعلنا متمسكين بالوضع الحالي المؤلم , خوفا ً من وضع ٍ مجهول ٍ – يدعونه الالتزام و اللجوء إلى الله – ربما يكون أكثر ألما ً .. !
لن ألوم أحدا ً , بل سألوم نفسي في كل مرة أقصّر في الذهاب إلى طرف الحبل الآخر… إلى الله جلّ جلاله..
يالمناسبة, ألم يحن الوقت لتزوري مدونتي فتنثري طمأنينة كلماتك ِ عليها و على من يزورها ؟
سبحان الله! بعض الكلمات لها من الراحة مالها! شكرا ايناس:)
>اليوم بالتحديد كنت أفكر بحبل الله، كيف أن حالنا ونحن نقطع (حياتنا اليومية) يتلخص في حال امرءٍ يعارك أمواجًا متلاطمةً لايدري من أين تأتيه كما لاندري شيئا عن قدَر اللحظة التي تتلو هذه التي نحن نقضيها، والحلُّ الوحيد من أجل أن نكابد مانكابده دون أن نفقد الطمأنينة هو حبل الله ببساطة، أن تتمسك بصاحب أقدارك!
معرفة الله هي أول الطريق حتما كما قال الأخ طارق. >العجيب أني أذكر أن هذا كان أول درس توحيد علَّمونا إياه (من ربك؟ الله. وكيف تعرفه؟ بمخلوقاته وكلامه) أستطيع أن أقول بأني لم أدرك هذا إدراك العقل والقلب وأشاهد آثاره في حياتي حتى جاوزت العشرين!
> كلمة أحبها للدكتور محمد راتب النابلسي: (إن أصل الدين معرفة الله عز وجل ، إنك إن عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر)
أعجبتني الصورة التي رسمتها (أخطاؤنا، ذنوبنا التي نرتكبها ليست ماضيا نتركه خلفنا بل عقبة نضعها أمامنا تجعل طريقنا متعرجا غير مستقيم حتى نتوب عنها فيسلك لنا الطريق ثانية)
وأعجبني ذلك التعبير (سحر العودة)! كنت أحتار في وصفه:) نعم والله مثل السحر وأحلى، اللهم لاتحرمنا.
جزاك الله خيرا يا إيناس، استمري بكتابة مايدور في صفحة نفسك، نحن نسعد بذلك.
> إن أردتُ أن أختصر مقالك في جملة فهي الآية الكريمة (قد أفلح من زكاها).
طارق ؛
كما أسلفتْ ، الجهل بالله ، هو ما يجعلنا نبتعد ، دون أن نخطط للبُعد يوماً
والسبيل للتعرف إليه هو دراسة أسمائه الحُسنى ، فبها سنتقين بأن يد الله العُليا هي خير من تُمسك بالطرف
الآخر من الحبل ..
والله لقد آن أن أزور مدونتك منذ زمن طويل جداً ، لكنه التسويف وما يفعل !
في كل مرة تستمر في متابعتي ، والتعليق أيضاُ ، أدرك بأن طارق من القلة الذين لا يرجون لخيرهم
جزاء ولا شكوراً : )
اشتركتُ في قائمتك البريدية ، وابشر بالخير في الأيام المقبلة بإذن الله :”)
لينة ؛
صديقة القلب والفكر المتفرد ، أهلاً بك :”)
( تفننت في التفلت من الأمر ) وهو حقٌ وواقع ! وذلك ما يجعل الأمر معضلة في نظر الكثير منا ،
للحدّ الذي يجعلهم يعتقدون بأنّ لا ملجأ ولا منجأ إلا بالاستمرار بالوقوع ، لكن التدارك هو الحل الأكثر سهولة
والأكثر صعوبة في آن واحد . هو سهل لأنه يتطلب خطوة واحدة فقط ، وصعب لأنه إن لم ينبع من داخل المرء
فلن تأتيه الخطوة المُنتظَرة ..
لينة ، وإني والله لأحُبّ حضورك .. لأنكِ حين تحضرين ، تتركين جميل الأثر :”)
ودٌ و امتنان .. و دعاء أرفعه للمنّان … أن يحفظك ِ في كل زمان ٍ و مكان .
اللهم آمين للدعاء الجميل ، ولك بالمثل وأكثر : )