الرئيسية إينَـاسِّيات كلمةٌ طَيِّبةٌ

كلمةٌ طَيِّبةٌ

بواسطة إيناس مليباري

حدَث أن تغيبتْ صغيرتي يومين متتالين، وفي اليوم الثالث، سألتُ والدتها عن سبب تغيبها، فكانت الصاعقة! أخبرتني بأن ابنتها “زعلانة مني” ذلك لأنها قبل يومين دخلتْ للفصلِ متأخرة – ويبدو أني لم انتبه لها- فلم “أُصبِّح عليها” !

أيعقلُ أن يكون لـ “صباح الخير” كل هذا التأثير؟ ما افتقدته صغيرتي ليس الصباح بحدِ ذاته، لكنها افتقدت الكلمة الطيِّبة التي اعتادتها، ألِفها فوادها قبل مسامعها، فلما افتقدت ما طاقتِ المكان ولا الأشخاص! 

أنتَ لا تدري ما تفعله كلماتك الطيبة لمن حولك، جارك الذي ألقيتَ عليه السلام ببشاشة، أمر روتيني بالنسبة لك، لكن استقبالك له بحُب وصدق،  تعدَّى أن يكن مجرد سلام! تعدَّى لما هو أعمق من هذا بكثير، يحصل كل هذا لما تخرج الكلمات الطيبة من قلوبنا بصدق، نقولها مستشعرين ما نقول ، وليس لمجرَّد عُرف اجتماعي أو مهمة يجب إنهاؤها. 

إحدى صديقاتي، هاتفتني مُستشيرةً إيايّ في أمرِ صغيرها الذي ما عادت تعرفُ له حلًا ولا مخرج، ظنَّت صديقتي أنها ستجدُ عندي الحل السحري الذي سيُغيِّره بضغطة زر! كانت تطلبُ مني حلًا عاجلًا، نتيجتهُ فورية ، لا أذكر أني كنتُ أملك إجابة واضحة لمُرادها، لكن ما أذكره أني ذكَّرتها بفضل المربي، مكانة من ينشئ صغيرًا بعقيدة سليمة، أغلقتُ منها ولا أدري هل هي نادمة أم نادمةٌ جدًا لأنها اختارتني لأقدم لها الاستشارة!! تودَّد الله لي برسالة لطيفة منها، تُخبرني بأن صدرها قد انشَرح رغم أنها لم تهتدي للحل بعد، لكنها علمت بأنها تحتاج للمزيد من الصبر. 

الناس يا صاحبي – أنا وأنت على رأسهم- مُتعطشة لكلماتٍ تُشعرهم أن الحياة رغم متاعبها، لازالت بخير، لا زال الخير قائمًا وباقٍ إلى قيام الساعة، ألا يحدث أن تسمع موعظة، تسمع درسًا، تشعر فيها بأن الدنيا حقًا في يدك لا في قلبك؟ ثم تنتقل لمجلسٍ آخر يتحدثون فيها عن اقتصاد الدولة، عن اختلاف الوضع عمَّا سبق، يختلف تفكيرك، تتعجب من نفسك التي تتقلب وهي فيك وما تشعر! تشعر لوهلة بأنَّ الدنيا دخلت جوفكَ، أنت الذي كنت قبل قليل تدعو للزهد، للقيم العُليا، للمبادئ السامية، ها أنت قد فُتنت، وما كان سبب فتنتك إلا الكلمة! هنا نعلم يقينًا لمَ جاءت وصية رسول الله عليه الصلاة والسلام: “قل خيرًا أو اصمت”. 

تخرُج الكلمات الطيبة من فمِ صاحبها، ربما كانت كلماته غير مدروسة، غير مَوزونة، لكن لأنها طيبة، صادقة، كفلها الله، وجمَّلها، زيَّنها في قلبِ متلقيها، ثم يزداد الشعور، يزداد الحُب، تزداد صلة الأرحام، ويقل الهجر والعَتب، يقل القيل والقال، يقل الفساد في هذه الأمَّة! 

قال صلى الله عليه وسلم: ” في الجنَّة غُرفًا لا يُرى ظاهرها من باطِنها، وباطِنها من ظَاهرها، فقال أبو مالك الأشعريّ: لمَن يا رسول الله؟ قال: لمن أطابَ الكلام، وأطعم الطَّعام، وبات قائمًا والنَّاس نِيام”

بإمكان الكلمة الطيبة أن تُضمِّد جرحًا، تجبر كسرًا، تُسعِد محزونًا، تُفرجُ همًا، تُحدثُ بهجة، وتواسي مكروبًا، وتُصحح عقيدة، بكلمةٍ واحدة ينشئ جيلًا بعد جيل، بكلمةٍ واحدة، يكبر الصغير أن لا ربَّ سوى الله، لا رازق سوى الله، لا مُنعم عدا الله، بكلمةٍ لا تزنُ شيئًا عند الخلق، ولا يعلم وزنها إلا مولاك، تصنعُ أُمًّة، تغرسُ قيمة، تُثبّتُ مهزوزًا، بكلمةٍ واحدة، تنقلك من كافرٍ لمؤمن ومن مؤمن لكافر! من شأنِ الكلمة أن تُعزّ أقوامًا وتُذلّ آخرين! 

 تخيَّل لو أنَّ هذا النص ما أُنزل إلا لك، لقلبك، يتفضًّل الله عليك فيخبرك: (فَإِنَّكَ بِأَعۡیُنِنَا) ، وفي هذا يقول ابن عثيمين- رحمه الله: 


أي: فإننا نراك بأعيننا ونراقبك ونلاحظك ونعتني بك، وهذا كما يقول القائل لمن أشفق عليه وأحبه: أنت في عيني، ومن المعلوم أن مثل هذا الأسلوب لا يعني أن مخاطبه حالٌ في عينه، بل المعنى: أنت مني على مرأى وعلى رقابة و على حماية. 

تأتي الكلمة الطيبة، فتصير مِلكًا لمتلقيها، يسمعها بقلبه، تعبر لقلبه مباشرة، دون الحاجة لتحليلها أو تفسيرها على نحوٍ خاطئ.

(فَقُولَا لهُ قَوْلًا لَيِّنًا)، أي السهل من الألفاظ، القول اللين اللطيف الذي يؤلِّف العصيّ من القلوب، وفي مشهدٍ آخَر: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، لمَّا ألان صلوات الله وسلامه عليه لهم الجانب، ورقَّق لهم القَول ، اجتمعت القلوب مِن حوله ولو أنه كان غليظ الجانب، لاختلفت المسألة، لكنها روح الكلمة الطيبة. 

قال صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ مِن مُوجبات المَغفرة: بذل السّلام، وحُسن الكلام” 

ومن الكلمةِ الطيبة، من كلمةِ التوحيد، من كلمةِ الحق، تأتي بقية الكلمات الطيبة، من شأنِ من في قلبهِ (لا إله إلا الله) أن يزخر قلبه بالكلمات الطيبة التي تأتي تباعًا لأساسها القوي، أساس التوحيد.

من بينِ جميع النبات والشجر الذي أنبته الله، فأيّ نوع من بين الملايين منها مَن يُمثِّل حال المؤمن؟ أي الأشجار تعكسكَ؟ إنَّه ذلك النوع الذي يُطابقنا نحن معاشر المؤمنين، ذلك النوع الذي يُستفاد منه حيًا وميتًا، ذلك الذي جذوره ممتدة لأعمق نقطة تحت الأرض، ذلك النوع الذي يُشارك من حوله من الأشجار، الماء الذي حصل عليه من باطنِ الأرض، على عكس حال بقية الشَّجر، الذي يكتفي بالماء لنفسه! لكن المؤمن كتلك الشجرة، نفعها مُتعدي، لا يكتف بأن ينفع نفسه! ما لهذا خلقنا الله، ما لهذا الله أعزَّنا وميَّزنا وكرَّمنا!

ذلك النوع الذي يؤتي أُكله كل حين، يُثمر لا يضيره حرَّ الهواء ولا برده، وكذا المؤمن، يُعلِّم من حوله في صمته وكلامه، في مرضه وصحته، في حياته وبعد موته، ذلك النوع من الشجر الذي فَرعهُ في السَّماء، ممتدّ، شاهقٌ، باسق، وكذلك المؤمن، أقواله الطيبة، وأعماله، ترتفع للأعلى، حيث وُسع السماء، حيث عرش الرحمن، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). يعملُ المؤمن في الأرض ويتكلًّم فيبلغُ عمله وقوله في السَّماء وهو في الأرض! 

ذلك هو حال الشجرةُ الطيبة، النخلة، هي ثابتة، وهي بثَباته تُشبهنا، تُشبه المؤمن، كما أنها مُرتفعة، وهي بهذا تُشبه ارتفَاع عمل المؤمن بارتفاع فُروعها، والثالث أنها تؤتي ثمرها كل حين، وهذا ما يُشبه بركة المؤمن ومنفعتهُ لغيره كل حين، وآخِرها أنَّ كل شجرة يُقطَع رأسها فإنها تتشَّعب غُصونها من جَوانبها، إلا النخلة، فإنه إذَا قُطع رأسها يَبستْ ولا تَحملُ حتَّى تُلقَّح. 

قال صلى الله عليه وسلم: “اتقوا النَّار ولو بشقِّ تمرَة، فإن لم تجدوا، فبِكلمةٍ طيِّبة

وكُن على بصيرة ياصاحبي، بأنَّه مهما اتَّسع مالك، ووصلتَ في نفوذك، واعتليتَ منصبًا تلو الآخر، وكل يوم لك فيه شأن، فإنَّ كل هذا لن يُغنيك، لن يكفي كل مَن تحب، لن تَسع أملاكك أهلك، صَحبك، أحبابك، شيئًا واحدًا يقوم مقام كل ما سبق، حُسن الخلق! أحسِن كلامك، وأطلق بشاشتك، بهذا تنال  الأوّلين والآخرين. 

قال صلى الله عليه وسلم: ” إنَّكم لن تَسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بَسطُ الوجه وحُسن الخلق

خاتِمة: كلمةٌ طيبةٌ هي الوُجهة الحديثة لـ (سمفُونية حوَّاء)، الحمدُ لله الذي هَدانا لهذا وما كُنا لنهتدي لولاَ أن هدانا الله، الحمدُ لله الذي أتمَّ على مدونتي تسع سنوات، ربّ اجعل هذه الكلمات، كلمات طيبة، شاهدة لنا يوم أن نلقاك. 




You may also like

4 تعليقات

بيان 15 ديسمبر 2018 - 10:15 م

الحمدلله كما يحبّ ربنا ويرضى، كم كانت كلماتك الطيّبة مرفأ نور للعابرين ياصاحِبة العُمر، اسأل الله أن يجعلك مُباركة ويتقبل كل كلماتك الطيّبة ويجزيك عن أحباب هذه المدونة خير الجزاء.

Reply
أسماء العولقي 16 ديسمبر 2018 - 5:57 م

ادام الله قولك اللين ، وكلماتك الفاخرة التي تنعش الروح والعقل

Reply
سمية 24 ديسمبر 2018 - 10:32 م

نوستي (استمتعت ودمعت عيني بقراءة مقالك : كلمة طيبة)
لو تعرفي انه ليا فترة لمن اتخاصم مع القريبين مني ؛ اكررها عليهم”قولي كلمة طيبة” هذا اللي نحتاجه

أحب قلمك وكلماتك دائمًا صادقة ومباشرة تلامس الروح
أصدقك القول انه ندر هذا الصدق، كلماتك غالية على قلبي بمكانة غلاوتك فيه والله 💙

Reply
تهاني خضري 6 مايو 2020 - 12:13 ص

حقيقي الكلمة الطيبة من النعم … موضوع شيق وجميل …جمال الكلمات ممكن ان تصنع يوما جميلا …👏🏼👍🏼❤❤

Reply

اترك تعليقا