الرئيسية إينَـاسِّيات حاول مرّة أخرى!

حاول مرّة أخرى!

بواسطة إيناس مليباري

أحد المشاهد متكررة الحدوث في الروضة، هي تقلب مزاج الأطفال، إليكم أحد السيناريوهات الشائعة:

” يُقطّب جبينه، ويمدّ شفتيه إيذانًا بموجة رفض قادمة، أقوم بدوري بتذكير أصحابه بتركه بمفرده حتى يهدأ، أسأله: تحب نتكلم ولاّ أروح؟ غالبية إجاباتهم الثانية”، وهنا تبرز فطانة المعلمة في امتصاص غضب أو حزن الطفل دون الضغط عليه، وإنما بذكاء وحنان، وممّا أفعله في السيناريو السابق: الانسحاب الهادئ من أمام الطفل، الظاهر لديه أني حققتُ له مراده، والغائب عنه أني أحومُ حوله أرعاه بعيني، وأتخير مختلف الطرق ليبدو بخير، فتارة أبعثُ إليه أحبّ أصدقاءه ليدعوه للعبة يستمتعون بها سويًا، وتارة أمنحهُ خيارات جديدة أكثر من غيره، وأكثر ما أميلُ إليه هو مداعبته والتلطف إليه رويدًا رويدًا.

العجيب أن ذات الطفل الذي يكون رافضًا التحدث واللعب، تجدهُ بحالٍ مختلفة بعد تلطّفي معه ومناداته بأسماء الدلال التي يحبها، تذهب فورة الشعور البائسة، يعود الجبين لوضعه الطبيعي، تحيا ابتسامته، ننهي الموقف بحُضن حنون دون كلام ولا نقاش، ثم ينطلق!

أنا واحدة من أولئك الأطفال، الذين تأسرهم لطيف الكلمة وصادق الشعور، لعلي وقت حُزني أنطوي وأصنعُ لنفسي حدود وحواجز بيني وبين من حولي من أهلٍ وأصدقاء، لكن خلال هذا العام- بعد مرور عام على تعب أمي-، رأيتُ من الناس ما عجبتُ منه وتعلّمت!

بدأت القصّة تحديدًا منذ نهاية ديسمبر ٢٠٢١، حين مرضت والدتي وما عادت صحتها كما ألفناها، منذ ذلك الحين وصحتها في تهدور ملحوظ، على إثر ذلك لكَم عشنا مشاعر عديدة متناقضة! اعتدنا أن ننام على فرح ونصحو على فاجعة، اعتدتُ أن أمارس روتيني اليومي، بينما ترقدُ أمي بعيدة عنا، في العناية المركزة دون مرافق يطمئننا، هل يبدو ذلك سهلًا علينا؟ بالكاد لا!

ماذا عن دوامي مع الأطفال؟ لعل انخراطي معهم أهم عامل للحفاظ على صحتي النفسية، وهذا ما لا يفهمه البعض، فقد يُخيّل إليهم طالما أن الإنسان مارس يومه وذهب لعمله فقد تخطّى الأمر وتجاوز العقبة! الحقّ أن العقبة في القلب، لا يمكن لأيّآ منا رؤيتها، لكننا نتلمّسها في سلوك الإنسان، في أوقاتِ خلواته، وفي أقواله. ليس كل من يضحك خالِ الهم، وليس كل من يُكثر شرب القهوة عالِ المزاج!

الأمور لا تبدو عادية لصاحب الكرب! تختلف موازينه، ولا تصبح المسائل عنده واضحة فليست (١+١)= (٢) دائمًا! تأكّد بأن دائمًا هناك شيء تقدّمه للمكروب، مهما كانت إمكانياتك وقدراتك، يكفيه منك الصدق والسؤال عنه وعن حاله. الدعم النفسي الحقيقي الذي ينبع من لبّ فؤادك، هي ضالته، وليس السؤال عنه لمجرد ” إسقاط فرض”.

ومما رأيتُ خلال عامي المنصرم، فالنّاس في المواساة مسالك وضروب شتى، منهم من يكتفي بالسؤال عن المكروب مرة في العام، ويظن أنه نجى، فئة ثانية تكتفي بطريقة واحدة للاطمئنان على المكروب، فتجده مثلًا اعتاد الاطمئنان عليه كتابة عبر أحد التطبيقات، وبنفس الطريقة على غرار: “كيف حالك؟ الله مع الصابرين، الله يبتلي من يحب…الخ” هذا وإن كان كلام حق، لكن ليس كل ما يحتاج سماعه المكروب كلّ مرة! المطلوب أن تتخوّله بين الفترة وأختها، لا أن تخنقه بكثرة تذكيراتك!

رسم لنا القرآن والسنة مختلف طرق الدعم النفسي، فمرّة يقولها سبحانه مباشرة: ﴿وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَیۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِی ضَيق مِّمَّا یَمۡكُرُونَ﴾ [النمل ٧٠]، ومرّة يحتاج الإنسان الشُّعور أن آلامه محل تقدير، وفي هذا يقول تعالى لنبيه الكريم: ﴿وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ یَضِیقُ صَدۡرُكَ بِمَا یَقُولُونَ﴾ [الحجر ٩٧]

لا أنساها لطلحة!” مات قائلها، وظلت منقبة لطلحة رضي الله عنهم جميعًا، تخيّل الفعل الذي قام به طلحة هو مجرد مصافحة كعب وتهنئته!

قال كعب بن مالك رضي الله عنه لَمَّا تابَ اللهُ عليه مِن تَخَلُّفِه عن غَزْوِه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “فقام إليَّ طلحةُ بن عبيدالله يُهَروِلُ حتى صافَحني وهَنَّأني، واللهِ، ما قام إليَّ رجلٌ مِن المهاجرين غيرُه، ولا أَنساها لطلحة”، رضي اللهُ عنهما وأرضاهما- شبكة الألوكة

ممّا تعلمته إن كان لك صديق أو قريب مكروب، فأعِد حساباتك، واجمع عُدتك، واستعن بالله ثم لتجعله يشدّ عضده بك دون طلب منه! حتى لو رفض، قاوم! وحاول مرة أخرى بأسلوب آخر، ولا تستسلم حتى تصل لقلبه! أقولها صادقة: كل الأعذار كاذبة، من أرادك، سيصل إليك، خاصة مع كثرة التطبيقات وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي، ماكان صعب الحصول عليه أصبح الوصول إليه بضغطة زر!

تعلّم كيف تكون سند حقيقي لصاحب الكرب، وتذكر أن لصاحب الكرب موجات وموجات! سِر مع موجة حزنه، ثم انتشله بهدوء للشاطئ الجميل، وإذا ما ركب الموج مجددًا، لست مضطرًا لأن تنتشله كل مرة، دعه يغرق وينجو بنفسه. . لكن لا تتركه وحيدًا!

تعلم كيف تتودد لصاحب الكرب، فالودّ يحلّ ما تعذّر الكلام عن حلّه! ومع كلّ ما سبق: لا تقتحم حدوده وتتدخل في خصوصيّاته!

وأخيرًا: بورك سعي كل من انتشلني من حزني كرّات ومرّات دون أن يخبرني أنه يفعل! شكرًا لكل كوب قهوة وصلني بُغية جبر خاطري، وكل دعوة غداء كانت مواساة لطيفة، وكل مقطع فيديو وصورة أُرسلت لي بنية مشاركتي اللحظات الجميلة ولاشغال فكري، شكرً لكل من أراد الزيارة وفعل، ولكل من نوى وتعذّر عليه، للدعوات الصادقة سرًا وجهرًا، شكرًا لمن صعُب عليه الاطمئنان عليّ فسأل غيري عني.. أقول لكم: هنيئًا لكم عظيم الأجور

اللهم ربّ الناس، اذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، اشفِ أمّي شفاء لا يُغادر سقمًا

You may also like

4 تعليقات

فاطِمة 2 يناير 2023 - 10:00 م

ما كُنا طلحة!
كتب الله أجور صبركم💗.

Reply
فنو رقم ٢ 2 يناير 2023 - 10:24 م

الله يعطيك أضعاف السعاده اللي رسمتيها بقلوب الناس اللي حولك يا نوسا .
و يفرحنا جميعًا بشفاء الوالده
أحبك كثير 3>

Reply
الهام 3 يناير 2023 - 10:58 ص

وردك يازارع الورد 🌷 🌹

Reply
ملاك 3 يناير 2023 - 11:31 ص

كلامك طبطبة ووصف مشاعر واقع اعيشه ماعرفت اعبر عنه .. الله يريح قلبك ويجبر خاطرك بشفاء والدتك ويكتبلكم الاجر ♥️♥️

Reply

اترك تعليقا