لا أدري ما هي المقدمة المناسبة؟ أوَ يحتاج كل موضوع نكتب عنه لمقدّمة تمهّد له؟ أم أن الشروع في لبّّه أفضل؟ صحيح أن الأمرين جائزان، ولكن لن يختلف اثنان أن التمهيد للأمر والتهيئة له تؤدي لنتاج أفضل من الدخول المفاجئ!
كذا الأمر مع أقدار الله خيرها وشرّها، منها ما تصيب المرء فجأة، ومنها ما يهيىء الله العبد لقَبول القدر! وتلكم من تمام ودّ الله ورحمته وعلمه بضعفنا وعجزنا.
عن موتِ أمي حبيبة عُمري وقُرّة قلبي أكتب.. على أن الله لم يأخذ وديعته فجأة، ولكن للموت هيبته ورهبته، يكفي كونه “مُصيبة” كما وصفه القرآن. تتزاحم المشاهد في قلبي، ولا أدري حقًا من أين أبدأ وكيف أبدأ؟
مشهد مغسلة الأموات
“فين بناتها؟” قالت المغسّلة، تقدّمنا نحن الأربعة، لندخل المغسلة للمرّة الأولى، ولكل أمر يخوضه المرء مرّته الأولى التي تقرع في قلبه.. من أخبرنا أن نتوقف عن البكاء على الفور؟ لا أحد! أنّى لنا رؤية أمي الحبيبة ترقد ليس في سرير المستشفيات الأبيض كما اعتدنا، لكن في سرير حديد! قاطعت أختي الكُبرى هدوء المكان لتضع كفّها تحت رأس أمي وتقول للمغسّلة: “مافي مخدة؟” صرخ قلبي ليخبرها سرًا: “ماعادت تشعر بالألم!”
وكما أفعل مع أطفالي في دروسي التي تحتوي على أدوات عينية، فعلت المغسّلة ومُساعِدتها! كانت الأداة أمي!- رحمها الله- لم نجرؤ على سكبِ دمعة واحدة أو أقل! من هولِ ما نرى، المكان بارد، كل شيء في مكانه تمامًا، فحصتُ المكان سريعًا لأجده يُشبه المعمل، بدا وكأننا سنجري تجربة أو عملية سريعة! لم نُطق صبرًا لاتّباع التعليمات فكان أول ما فعلناه بعد ارتدائنا للمرايل البلاستيكية، والكِمامة، هو تفحص الأجزاء المكشوفة من جسد أمي الطاهر، ريثما تجهّز المغسّلة الأدوات.
لا صوت يُسمَع بيد صوت التكييف وصوت قراطيس الأدوات وتجهيزها من قِبَل المغسّلة، بدأت بتغطية الثقوب في جسد أمي الطاهر بكُتل كبيرة من القطن، ثم تغطيتها بلصق الجروح، ولكن جرح القلب النّازف كيف يلتئمُ يا ربّاه؟
كانت أمي- رحمها الله- تنزفُ من كل مكان، من فتحة التنفس الصناعي التي عاشت من خلالها طيلة شهرين، تنزفُ من قسطرة الغسيل الكلوي في صدرها، تحاورت أختي الكبرى سريعًا مع المغسلة حول ما يحدث، وما يجب أن يكون الوضع عليه من خياطة هذه الثقوب بشكل جيد من قبل المستشفى، بينما كان قلبي يصبّر أمي سرًا: سيشهد لك جسدك كم عانيتِ وصبرتِ! هنيئًا لك يا “ماما”!
بدأت بخلط السدر مع الماء في برميل كبير، ثم أخذت تسكب كميات كبيرة على وجه أمي، خشيتُ أن أقول لها: حسبك، أمي في آخر عهدها في الدنيا كانت تخشى الماء، خشيتُ أن أقول للجميع اخرجوا ودعوني مع أمي، فأنا من كنتُ في سابق العهد أْحمّمها كما تُحبّ
يحين وقت استحمامها قبيل ظهيرة يوم الجُمعة، أجهز الكرسي البلاستيكي البني، ثم أقصّ جزء من سفرة الطعام البلاستيكية وأضعها على الرف، أعقدُ اتفاقًا ملؤه الضحك مع أمي، بأن تمشي على رجليها حين ذهابنا لدورة المياه، لأرجعها وهي على الكرسي المتحرك، ما أكثر ما اختلفنا وما أكثر ما خضعتُ لرأيها لأكسب ابتسامة جميلة من ثغرها الحبيب.
تجلسُ أمي على الكرسي، لتبدأ “حكاوينا” حول كل شيء، بدءًا بـ “ايش حنتغدى اليوم؟” مرورًا بمهام البيت العالقة والتي تحب أمي الاشراف على ترتيبها، انتهاء بـتكرار توصيتها: “لا تدخلي المويا في عيني”، أضحك وأنا أعدُها بذلك.
أثبّت السفرة على مكان قسطرة الغسيل بشريطٍ لاصق، وقد اخترنا النوعية اللطيفة التي لا تؤذيها حين انتزاعها، أخيّرها أي نوع من “الشاور جل” تحب أن تجرّب اليوم؟ كنتُ أخبئ الخوف عليها داخلي، الخوف من أن تتضرر القسطرة بالماء، يمضي الوقت سريعًا، لنجد أنفسنا في سريرها، وقد حان وقت تطييبها بالعودة، استعدادًا لقدوم إخوتي والسلام عليها، ما أطيب شكلها حين ثناء إخوتي عليها لطيب رائحتها!
عجز عقلي استيعاب أن ستة أشخاص يغسّلونها في آنٍ واحد! كنا نجد صعوبة في تقليب جسدها من جهةٍ لأخرى، ذلك أن المكان أصبح معبأ بالمكان فصار من السهل انزلاقها وعودتها للوضعية الأولى، اضافة لجسمها الذي تضاعف حجمه بسبب كمية السوائل! ” يا حبيبتي ياماما”
اضطررنا لتثبيتها بأربعة أيدي، بينما تقوم المغسّلة برش الماء، ثم نقلبها للجهة الأخرى. أعقبنا السّدر بالكافور، لم أتوقع أن أُعاين الدروس التي كنا ندرسها في المدرسة! قد جعلها ربّي حقًا!
“ثلاثة منكم يجو” تحلّقت أخواتي الثلاثة عند رأس أمي الغالي، عن يمينها ويسارها ووسطها، بينما تأخرتُ ووقفت عند عتبات الجنة، عند قدمها.. تُكمل المغسّلة التعليمات: “قسّموا الشعر لثلاث أقسام، ثم ظفّروه” بصمتٍ تنفذ أخواتي المطلوب، لأستذكر أنا كل مرّة كنتُ أتحايل فيها على أمي لتمشيط شعرها! حيث كانت تتألم بشدّة، وما أكثر ما اخترنا فرشًا وأمشاطًا سويًا لتقتنع بأني لن أجعلها تتألم، وعند انتهائي من تسريح شعرها كما تحب “ذيل الحصان”، ترجع يدها للخلف، لتختبر قوة ربطة الشعر، بينما أمازحها قائلة: “عجبك يختي؟” تقول: “لا، لفّيه بقوة عشان لا ينفك، بس لا تعوريني” أرد عليها: “طيب ياهانم” ليصلني البلسم الشافي لكل أدوائي: ضحكتها التي فيها عافيتي وسلامي.
شرعت المغسّلة بتجهيز الكفَن، في سرير حديدي آخر، تفرده تهيئة لوضع الجثمان عليه، ولم أكن أعلم كيف سيكون مقدورنا حمل أمي، رغم قصر المسافة إلا أن لا حول لنا ولا قوة نفسية! استعنا بإخوتي الذكور في نقلها، بعد مغادرتهم، تطّيبها المغسلة تجهيزًا لتوديعها الأخير . .
قال محمد بن عبدالله بن عيسى الإليبري:
الموتُ في كل حينٍ ينشر الكفنا
ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئنَّ إلى الدنيا وزُخرفِها
وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبةُ والجيران ما فعَلوا
أين الذين هم كانوا لنا سكَنا
سقاهم الدهر كأسًا غير صافية
فصيَّرتهم لأطباق الثرى رهنَا
ربّ دعوتك في شهر الرحمة والغفران، في شهر العتق من النيران أن تغفر وترحم أمي الحبيبة وأن تجعل القبر خير منازلها، وأن تجعلها منعّمة مُستبشرة، وأن تربط على قلوب قومٍ مؤمنين ولا تفتنّا يامولاي بعدها