..فانصَبْ

بواسطة إيناس مليباري

ثم ينتهي اليوم بكلّ مشاقّه، أُصبّر الفؤاد المُرهق: “غدًا أفضل”، وما أن يأتي الغد، لأقع في فخِّ الأمس، تتكاثر المهام في الثانية الواحدة، حتى لتمرُّ الساعة الواحدة عليّ ثقيلة جدًا؛ لكثرة ما حصل فيها، ولكثرة الأشخاص .. أُهوّن على نفسي الأمر، أعدها بأن تحظى بوقتٍ أفضل في المنزل، فطبيعة العمل تستدعي لأن يكون الذهن منشغلًا انشغالًا تامًا..هكذا أُعلّل لنفسي وأؤمِّلها.. أصل للمنزل، أضع أثقال قلبي – والأثقال التي في يدي- في البيت، يا الله! كم هي نعمة السكن عظيمة! ما ألبثُ عن استرخي.. ليقفز في ذهني العديد من المهام الواجب عليّ إتمامها قبل انتهاء الليلة! إرسال بريد، شراء هدية، زيارة مريض… تتكرر دوامة البارحة، اليوم، ليس اليوم تحديدًا، بل كل يوم هو في شأن!

أعلمُ يقينًا أنني لستُ الوحيدة التي تُعاني من صُداع المَهام والواجبات، الأعمال المتزاحمة التي نحنُ غارقون فيها! ما يحدث أنَّه لن تهدأ تلك الدوَّامة ما حيينا، ليس لأننا لا نُجيد إنهائها بشكلٍ نهائي، فذلك مستحيل! لكننا لن ننجح أبدًا لأنها سُنَّة الله في الكون! هذا ما في الأمر ببساطة، من شأنِ حقيقة كهذهِ أن تُطمئن الفؤاد الثائر، وتُسكن الروح، وتمضي بسلامٍ بقية عُمرها..

يقول جل جلاله: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾  [الشرح: ٧]، فإنّك متى ما فرغت من عمل، عليك بالشُّروعِ في عملٍ آخَر، غير آبه بتعبك، غير مُلتفت للوقت الذي أمضيتهُ في العمل السابق، حتى وقت راحتك، هو عَمل واستعداد للمشروع التالي، هكذا خُلقنا في نصب، ومن نصبٍ لنصب، وبينهما نسير ونكون.. ومن هُنا تظهر اختلافاتنا في مدى تحمّلنا وتماسكنا وسط زحام الحياة ومشّاقها اللا مُتناهية، منَّا من يرفع الراية مع أول وخزةِ ألم وتعب، منّا من يُجاهد، ويصل للمنتصف، ثم يقرّر الرضا بأنصاف الحُلول! لا يبلغ النهاية.. رضي بالحدِّ الأدنى من الدُّنيا، وربما أقل! المهم ألا يستمر في الجهاد، ألا يتعب مُجددًا! ومنَّا من كان شعاره: (لا أبرح حتى أبلغ)، تجدهُ تَعِب، ومن التعب للتعب يتنقل، وبينهما يستريح، ثمَّ ما يلبثُ ينهض، فما سرّ هذه الفئة؟

قال عمر رضى الله عنه: “إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا سهلًا لا في عمل دنيا ولا في عملِ آخرة”. 

السرّ هو أنه متى ما فرغ من عمل الدُّنيا، نصب وصلّى.. إنه لحرثِ الآخرة يسعى! هذا ومن يسيرُ على شاكلته، من كان بعد فراغهِ من الأعمال، لله ناصبًا يديه وفؤاده، هُم من يُوفَّقون في أمور دينهم ودُنياهم، هُم من يحملون الشُّعلة دون أن تُصيبهم! تقترب من أيديهم، تصلهم حرارتها، لكنها لا تجرؤ على احراقهم؛ لأنهم بالله موصلون.. قوَّتهم بالله، يقومون له بالليل، ويصومون له بالنَّهار، الله هو صمدهم عند الحوائج، يَخلصوا من الناس، لينصبوا تعبهم بين يدي الله، فيعودون للناس بكامل أوجهم، يُقابلون الحياة ببأسٍ قويّ وروح يقظة! .. فلولا هذه المَعيّة الخاصة بينك وبين مولاك، لما شُرح الصدر، ولا حُط الوِزر، ولا رُفع الذكر.. وما أدراك ما الذكر!

 ” الأعمال كلها يُفرغ منها، والذكر لا فراغ له، ولا انقضاء تنقطع الأعمال بانقطاعِ الدنيا ويبقى الذكر ” ــ ابن رجب رحمه الله

لعلّك تتساءل: كيف أُوفِّق بين عمل الدنيا والآخرة؟ ذلك أن أعمال الدُّنيا تكاد تَغلب الآخرة في ظاهرها، والحقيقة هو أن الأُولى مُتمّمة للآخرة، أعمال الدُّنيا إن صَلحت النوايا، هي سُلّم للآخرة.. فإنك من الفئة المنشودة، لقريبٌ قريب!

لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا.. حين تستقطع من وقتِ راحتك لقضاء حاجة أحدهم، حين تضطر للاستغناء عن ساعات نومك الطويلة من أجلِ مشروع عكفت عليه طويلًا.. حين تفشل في إتمام أمر سعيتَ له، لا تحزن! الله مُطّلع ولن يحاسبك على النتيجة طالما أنك اجتهدت في الطريق، والأبواب دونك مُوصدة.. أنت على ثغر أينما كُنت، بإمكانك أن تكن داعٍ لله موصولًا به، تصل الدنيا بالآخرة بموقف، بذكر، بقصَّة..

أحد المرات التي زُرت فيها إحدى المشاغل النسائية، كانت التي تُصفف شعري حبشية الجنسية رُبما، لم أفقه من حديثها لصاحِبتها شيئًا، بيد أني تيقنتُ أنها عن يونس عليه السلام تتحدث! تُخبرها عن دعاءه العظيم.. كان الدعاء (لا إله إلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين) قضيتها!

وعن موقف آخر ترويها صاحِبتي، عامل نظافة، مجهول في الأرض، رُفع ذكره للسماء، قبل أن يُلقي كيس ما، فتحه، ألقى باقي الطعام في البحر، ما ظنك فيمن يتقي ربّه حيث لا موضع للبشر، عملٌ خالص لوجهه الكريم.. اللهمَّ اجعلنا منهم، اجعلنا هُداةً مُهتدين.

تذكر دائمًا، لا راحة للمؤمن في طاعةِ الله، المُستراح الحقيقي الجنَّة، فاللهم اجعلنا أهلًا لها، ادخلنا برحمتك، واغفر لنا صغير الزلل، وكبير الذنب.

ولأنَّه بالحمدِ تتمّ النًّعم، وتزيد، بالحمدِ يرضى الربّ عنَّا ويُكرمنا من فضله، فحمدًا لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه على إتمامه للمدونة عشر سنوات كاملات، اللهم أتمم لنا نورنا، واجعل لنا من بين أيدينا ومن خلفنا نورًا.

١١/١١/٢٠١٩

You may also like

2 تعليقات

ايمان 9 نوفمبر 2019 - 8:49 م

دائما ماتعبرين عن مافي خوالجنا تتسللين برفق الى قلوبنا تُأنسيننا بحروفك التي تشبه حروفنا تتشابك وتكون جملا تمسنا آنسك الله ياايناس

Reply
نجود 9 نوفمبر 2019 - 9:23 م

والمهم أن يستمر العمل بك أو بدونك! كم تحتاجين للشجاعة في هذا!

Reply

اترك تعليقا