الرئيسية كَوبُ حَيـاة يَسْتَصْرِخُهُ!

يَسْتَصْرِخُهُ!

بواسطة إيناس مليباري

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

fox

في المرّة الأولى، مِن كل شيء في حياتك، غالبًا، تتمنى أن تعود ثانيةً؛ لأنك لم تُحسن التصرف، أو أنك تتمنى أن تكون قد اتخذت قرارًا أفضل، المرة الأولى دائمًا مُختلفة.

قد تنسى محاولتك العاشرة، والمائة والعشرون، لكنك، أبدًا، لن تنسى، محاولتك الأولى، تلك المحاولة التي رغم عدم نجاحها، لكنك تذكرها جيدًا، فقط لأنها كانت الأولى، عشتها للمرة الأولى، مارستَ طقوسها، ونفّذتَ تفاصيلها، للمرة الأولى، فكان كل شيء، لك وعليك، مختلفًا.

قد تكون المرة الأولى، شيئًا جيدًا، أو سيئًا، كما يفسّره الإنسان في الظاهر- والله يدّبر أمره في الخفاء- المهم بأنه في كل مرة، يقوم فيها الإنسان، بمحضِ إرادته، أو يقدّر الله حدوث شيء، يعيشه لأول مرة، ستكون تلك تجربة مختلفة، وعني شخصيًا، تستحقّ التدوين!

ثمّة أشياء، عند وقوعها، يعني نهايةُ حياتها، وأُخرى- وتلك التي أعنيها!- بوقوعها، ترتفع أشياء أخرى! الحال يُشبه تمامًا، لما يرتطم شيئًا ثقيًلا على أرضٍ صلبة، فورًا ترتفع بقية الأشياء، من حوله، إثر قوة ارتطام الجسم الثقيل، وقبل أن تهوي بقية الأشياء ثانيةً، يُمسكها الإنسان! فيتدارك، ويغنَم!

من الطبيعي، أن يكون لدى كل واحد منّا، قائمة (مُستحيلاته) الخفيّة! التي يعلم أو لنقُل بأنه لم يتخيل بأنه أن الله كتب له أن يكون في موقف (فلان)، اليوم،  يضعكَ الله برحمته وعدله، لتكونَ أنت فُلانًا، لشخصِ آخر، قد لا تعرفه..

ثمّ لما تكون أنت في الموقف، بمفردكَ، وتظنّ ظنََا أنّ الجُموع حولكَ، والكلّ لاهٍ يا صاح! تعلم كم كان لفُلانٍ ذلك، عند ربّه، حاجاتٌ وحاجات، مثلما، حدَث معك الآن، والكلّ، … لاهٍ عنكَ، لكنهم حولك! 

ولأنكَ مؤمن بأنّه القابضُ الباسط، فإنك تُساير اليوم، وتُحسن للناس، ذات الناس الذين اعتدت رؤيتهم، في بيتك، وفي عملك، وكل من تقابلهم بالعادة، فإذا بك تجد الذي استنصرتهُ بالأمس، يستصرخكَ اليوم!

يا الله، الآن لا يكون مجرد علم، الآن يتحول علمك، لشعور عميق، بما شعر به موسى كليمُ الله عليه السلام، لما أحسن لذلك الرجل، ثم يستصرخه ياربّ، بأي حقّ؟ بأي حقّ يفعل الناس بنا هذا يا ربّاه؟ (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ)

يستصرخونا بعدما استنصرناهم، بفضلك؟

في تلك اللحظة، تدعو ربك، تدعوه بشدّة، وحُرقة، ألا ينزلق منك لسانك، وألا تتفلت منك كلماتك، ألا تخرج منك كلماتُ موسى فتقول لكل من استصرخك: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ)!

تجبرك المرة الأولى التي يمرّ بها قلبك، بأن يستصرخه أفراد بعد استنصارك لهم، أن تعود للوراء، تفكّر كثيرًا، تسأل نفسك، لماذا حدث معي هذا؟ يارب بصّرني بنفسي..

عن عُبيد الكندي قال:
سمعتُ عليًّا يقول لابن الكوَّاء: هل تدري ما قال الأوَّل؟
” أحبِب حبيبَك هونًا ما، عسى أن يكونَ بغيضَك يومًا ما، وأبغِض بغيضكَ هونًا ما، عسى أن يكونَ حبيبَك يومًا ما “.
قال ابن الأثير في “النهاية”: ” هونًا ما: أي: حُبًّا مقتصدًا لا إفراط فيه. وإضافة (ما) إليه تُفيد التَّقليل؛ يعني: لا تُسرف في الحب والبغض؛ فعسى أن يصير الحبيبُ بغيضًا، والبغيضُ حبيبًا؛ فلا تكون قد أسرفتَ في الحبِّ فتندم، ولا في البُغض فتستحيي “.

ذاك إذًا! هونًا ما يا صاحِ! لا شيء مَضمون! كنتَ وكأنك ضامنٌ لما سيحدث، فلما حدث الارتطام، اصطدمت، ثم أفقت! هونًا ما في كلّ شيء تحبّه، في الناس، في ممتلكاتك، في تفاصيلك الصغيرة، في روتينك اليومي، في أفكارك، في خلجات نفسك، في كل ما قد يخطر على بالك!

هونًا ما، (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، أمر مُوسى، عليه السلام، كان أن يستصرخه! وهذا ما حدث معك! فحدثَ ما حدثَ في قلبك، والله المُستعان.

قال الإمام البخاري رحمه الله : “[باب لا يكن بغضك تلفًا]” وساق بسندٍ صححه العلامة الألباني عن عمر رضي الله عنه موقوفًا : “لا يكن حبّك كلَفًا، وبغضك تَلفًا” قال أسلَم – راوي الأثر عن عمر – : فقلت : كيف ذاك؟ قال : “إذا أحببتَ كلِفتَ كلَف الصبيّ، وإذا أبغضتَ أحببت لصاحبك التّلف”.
قال العلامة الألباني رحمه الله معلقًا على هذا الأثر :”(الكلف) هو الولوع بالشيء مع شغل القلب”.

ورغم ذلك، موسى لما استصرخهُ ذلك الرجل، لم تكن بينهم، علاقة مودّة سابقة، لكن موسى عليه السلام، شاهد الموقف في الوقتِ ذاته، الشاهِد: قد يستصرخك ياصاح من لا تجمعك به علاقة مودة،  تكون قصتكَ معك أنك استنصرته في موقفٍ عابر، أو مواقف متتالية، فنشأ شيء من الودّ، ثم .. أماتَ ذلك الاستنصار، باستصراخه!

لما تربّي قلبك، أن يكون كل شيء، فيه، تودعه بداخلهِ، تودعه بالهَونِ، ولا تودعه بالقوّة، حتى إذا خرج، لا يتوجّع ذلك القلب ويمرض! أنت لما تُربّي قلبك أنّ كل شيء، سيكون في قلبي (هونًا ما)، إلاّ الله، والله ياصاحِ ستأتيكَ البشائر، سيختبرك الله في مواقف تعقب ذلك، ليريك هل ثبّت ذلك في نفسك؟ أم تحتاج لمزيد من الدُربَة؟ هذا التدريب، لا يتمكن منه القلب، في عشيّة وضُحاها! تذكر هذا، إذا كنت تريد لقلبك، أن ينعم.

لكل من جرّب قلبه أن يستصرخه، من قد استنصره بالأمس، يقول لكم محمد بن الحنفية:

ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً ؛ حتى يجعل الله له فرجاً أو مخرجاً

ولكل من استصرخونا، بعدما استنصرناهم، وبذلنا ما الله به عليم، واستعنّا بالنصير، حتى لا نستنصرهم وحدهم فحسب، بل وذريتهم! ثمّ.. استصرخونا بسوء ظنونهم، وعاملونا بأمزجتهم المتقلّبة! أقول لهم ما قاله تعالى في كتابه الكريم:

(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)

You may also like

5 تعليقات

نجود 11 ديسمبر 2015 - 8:36 م

في وسط كل هذا الصخب تأتي كلماتك حقيقية تخفف من حدة الأصوات! نتوقف، نتنفس الصعداء! وأخيرا هناك ما يستحق القراءة من الأقلام الحديثة 🙂
بارك الله لك وبك.

Reply
شروق 11 ديسمبر 2015 - 8:48 م

رائعة يانوسا اللهم استودعناك قلوبنا فأرحها وبشرها بخير خزائنك

Reply
هاجر 11 ديسمبر 2015 - 9:47 م

ماشاء الله معلمة ايناس ،، الله يزيدك رفعة في العلم و يأجرك على نشر الخير 💚

Reply
بُشرى المطر 21 ديسمبر 2015 - 12:11 ص

ما أكثرهم حولنا، ولكن لا نقول أكثر مما ختمتِ به (وأفوّض أمري إلى الله). بارك الله فيك ونفع بك ❤️

Reply
إيناس مليباري 11 يناير 2016 - 1:16 م

د. نجود:
بلسمٌ للفؤاد، أنتِ ()
جعلنا الله فوق جميل كل الظنون، وغفر الله مالا تعلمون : )

شروق:
اللهم آمين، يا رفيقة
ربنا يرحمنا، من حيث لا نحتسب للرحمة طريق!

هاجر:
اللهم آمين: )
حياكِ الباري، أم بتّال : )

بُشرى :
والنعم بالمولى، وخيّر من فوّضنا له الأمر ()
اللهم اجعلنا مباركين أينما كنا، وأينما حطّت أرواحنا ..

Reply

اترك تعليقا