الرئيسية كائِنات حسيَّة أسبوعٌ مضى ، باقٍ

أسبوعٌ مضى ، باقٍ

بواسطة إيناس مليباري

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

12

مضى الأسبوع الثاني من دورة غرس القيم للأطفال ، مضت خمسة أيام أُخر ، ليستْ كخمسٍ مضت ، تلك الخمس الماضيات ، باقيات في الفؤاد ، مُستقرة في الوجدان ، حاضرة في الذهن . افتقدنا لإطلالة الداعية أناهيد لكننا كُنا نجد صوتها في أروقة المكتبة ، مكتبة غرس ، نجدُ قسمات وجهها وحركات يديها في التكاليف التي كنا أُرهقنا لحلها ، وإتمامها كما ينبغي .

خمسة أيام ، تعلمنا من خلالها كيف نُخرّج أحاديثاً ، كيف نستخدم كتب التفاسير ، كيف نقرأ كتباً كثيراً ، ثم نُسدد ونُقارب بينهم ، وبعيداً عن (نا) الفاعلين ، فإنني ولأول مرة في حياتي ، أشعر أنني (طالبة علم) كان ولازال قلبي ينتشي ، كلما تذكرتُ فضل طالب العلم ومكانته عند الله .

في مكتبة غرس كنا نلتقي ، نقضي أربع ساعات ونصف يومياً ، تمرّ الساعة تلو الساعة ، والمكتبة تشهدُ نحلات يجُلنَ المكتبة جيئة وذهاباً ، نشترك في الكتب ، ننتظر حتى تنتهي تلك المجموعة من المُعجم ، نستخدم أجهزتنا لتحميل ما لم نجده الكترونياً ، في زحام التكاليف ، وصعوبة فهمنا لليسير من قول أستاذة أناهيد ، لكنه عسير لمن يسمعه لأول الأمر ، كانت في أوقاتنا فُسحة ، نختلق النكات ، تلاحمنا كمجموعة ، تقاربنا من صديقات وأستاذات ، حتى أني ومنذ اليوم الأول ، بتّ أحمل هم فقد روح الجماعة ، تلك التي يُبارك الله فيها أينما حلّت وارتحلت .

مُرشدات مكتبة غرس ، لم يكنّ كأي مرشدات ، نراهنّ في يومنا أربع وساعات ونصف ، لكن دوامهن يطول قبل ذلك ، وخلال حضورنا ، لم نجد ما يسوءنا قط ، لا أذكر ولا لمرة واحدة أن مرّت من جانبنا إحداهن ولم تُداعب قلوبنا بدعوة مُباركة من ثغرها الطيب ، وكان أكثر ما يجعلُ قلبي يستمر هو : الله يفتح عليكم . تلك المرشدات اللاتي أسرنَ قلوبنا بحُسن التعامل ، ولطافة الحديث ، وأكثر ما ميزهن هو : صبرهنّ دون أن يظهرنَ أنهن صابرات . ينتقلن من طاولة إلى طاولة ، حتى إذا مررنَ على طاولتنا شعرتُ أننا أهم مجموعة هنا ، ثم إذا انتقلنَ إلى غيرنا ، وجدتُ أنني أتهيأ . فيا الله سدّد خطاهن واحطهنّ بكرمك ، وافتح عليهنّ فتحاً مُبيناً ، واجمعنا بهنّ في فردوسك الأعلى .

كانت التجربة الأولى لي ، وأظن أنها لأغلب أفراد مجموعتي التي تُؤنسني صُحبتها ، أن نقضي تلك الساعات ، أو السويعات إن صحّ التعبير في مكان مُبارك ، كالمكتبة ، رائحة المكتبة ، ترتيب الكتب على الرفوف ، شمول المكتبة على أهم المراجع ، كان كل ذلك كفيل بأن يجعلنا نسعدُ رغم كل الضغط الذي مررنا به ، ورغم سماع جدران المكتبة لجزعنا بعض الأحيان ، إلا أنها تفتح ذراعيها ، فنبيتُ في أحضانها هُنيهة ، ويُحيطنا الله برحمته ، فنطمئن ، وننسى الذي قد كان .

خلال خمسةُ أيام أدركتُ خلالها معنى أن يثبتَ الإنسان ، أن يُجاهد نفسه ، هواه ، وكل ما يُلاقيه ، معنى أن يقرر الإنسان قراراً ، ويمضي فيه بقوة ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، أن يمضي ولا يهابُ مادام يعلم يقيناً ، أن الله سيسدده ويُعينه . أربع ساعات ونصف في مكتبة غرس كانت الغنى عن ألف التقاء .

منذ اليوم لي في الدورة ، وأنا أحاول أن أطبق خطوة خطوة مع أطفالي في الروضة ، وبعضاً من المواقف التي طبقتها مع أطفالي في مرحلة التمهيدي ، ما سأختم به التدوينة .

 أخبرت أطفالي بأن الله يحبهم ، وكان دليلي على ذلك أنه أوجد لنا نكهات متعددة من الآيس كريم ، سألتهم : تخيلوا لو كانت هناك فقط نكهة المانجا في الآيس كريم ؟ وكان أحدكم مُصاباً بالحساسية من هذه الفاكهة ؟ وصمت مُدهش منهم ، ألهمني أن أُكمل .. لأنه جل شأنه يحبكم فقد أوجد العديد من النكهات ، قاطعي أحدهم : ” بس سمكتي ماتت يا معلمة ! ” أخبرته بأننا في  النهاية سنموت ، نحن والحيوانات والنبات ، فقاطعني عُمر بقوله ” يا معلمة مو انتي تقولي الله يحبنا ؟ طيب كيف يحبنا ويموّتنا ؟ ” سألته وخالجني شعور بأني في مأزق! ” طيب انت عارف فين حنروح بعد الموت ؟ ” جاوبني فور انتهائي من سؤاله ” آها عرفت ! الله يموّتنا عشان أشوف جدو اللي مات ؟ ” .. حينها انطلقت عقدة لساني ، أخبرته بأننا في الجنة سنلتقي بكل الذين رحلوا من دنيانا ، ردّ علي أحمد الذي أخبرني بأن سمكته ماتت : ” يامعلممممة أنا متحممممس أموت ، عشان أدخل الجنة ” … اقشعر بدني ، وشعرتُ بأن دمعة ثقيلة الوزن ، ترغب في أن تسقط . فابتسمت.

 في حلقة ( مهام وأدوار أفراد العائلة ) كنتُ كلما سألتهم عن مهمة ، وأسألهم عن فاعلها ، كان جوابهم ” الدادا ” فمثلاً سألتهم : من يطهو الطعام ؟ ألهمني الله أن أحدثهم عن خادم الرسول صلى الله عليه وسلم ، قلتُ لهم : تعرفوا انو الرسول صلى الله عليه وسلم كان عندو خادم؟ ” أكثر ماكان يجعلني انطلق ، هو هبة الله بأن يسود صمتهم فجأة ، أخبرتهم بأنه كان لا يوقظه إذا كان نائماً ، ثم أخبرتهم بحديث عائشة رضي الله عنها حين كانت تحكي عن زوجها عليه الصلاة والسلام : ” كان يخيط ثوبه ويخصفُ نعله ” شرحتُ لهم معنى الحديث ، ولازال صمتهم يلهمني لأن أتحدث أكثر ! حتى قاطعني يوسف بخاطرته وهو ينظر للأرض : ” بس يامعلمة أنا بابا يشوف الوسخ قدامو ومايشيلو ! ” أخبرته بأن يذكر أباه بما هو صحيح ، ثم بررتُ له بأن أباه قد يكون متعباً .. أخبرتني صديقتي الشيماء فيما بعد بأني أخطأتُ حين بررت لوالده ما فعل ، حيث قالت لي : ” لمتى ونحنا نعطي مبررات ؟ لازم يعرف الخطأ بدون مبرر ” .

 في لقاء حميمي بين المعلمة و- أبناءها-  الأطفال ، كنت أحدثهم عن مخلوقات الله وكيف أنها تسبح لله لكننا لا نسمع تسبيحهم ، وصمتٌ سائد اعتدتُ عليه ، يدهشني في كل مرة يهبني الله إياها ، عارضني أكثر من طفل بأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبح ، ودليلهم على ذلك أننا لا نسمع تسبيحهم ، رغبتُ في استشهادي لهم بالآية (  { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ولكن لعدم تذكري إياها بالترتيب الصحيح جعلني استغني عنها ، وأنا أتألم لاستغنائي . بعد يومين من حديثنا هذا ، جائني أحد الذين عارضوني ، وأخبرني : ” معلمة ، تتذكري لما قلتي إن الجبال تسبح ؟ ترى صح كلامك ! أنا سألت بابا وقلي صح كلامك ” ابتسمتُ وحمدتُ الله على نعم كثيرة ، من بينها .. مفهوم إيماني تغرسه في عمق طفل . 

 قبل اللعب في الخارج ، طلبتُ من الأطفال ترديد دعاء الخروج ، فأخذ بعضهم كما نفسرها ” يستهبلوا ” فقلتُ مُرتجلة ، بأن دعاء الخروج يحمينا من أن يصيبنا أي مكروه ، وذكرتُ وأنا انظر للطفل أكثرهم ” استهبالاً ” بأن الذي يقول الدعاء يحميه الله من أن يدخل الرمل في عينيه ، حيث كانت هذه مشكلة هذا الطفل في الغالب ، عارضني وقال : ” أصلاً مو الله اللي يحمي عيني ، رموشي اللي تحميها ! ” شعرتُ بأن قلبي ارتطم بجبل كبير جداً .. تحققتُ من أستاذة أناهيد بما فعلته فأخبرتني بأنني أخطأت في الارتجال ! وأعقبتْ قائلة : ” تخيلي هذا الطفل قال الدعاء ، وصادف إنه اتعور ، أول شي حيفكر فيه إنك كذابة ، وإن ذكر الدعاء وعدمه واحد ” . طلبتْ مني التريث حتى نتعلم كيف نعلم الأطفال أهمية الدعاء بطريقة صحيحة . 

 اصطف الأطفال للطابور ، ووقفوا أمام معلمة لينة ، فقالت إحداهن : ” هادا الطابور خسيس ” شعرتُ بأنني أغلي لذكرها لهذه الكلمة ، صمتُ هُنيهة ، حتى تحدثت لينة قائلة : ” هذه المفردة … ” لا أعلم ما الذي رغبتْ لينة في قوله لها ، ما فعلتهُ فجأة هو أن أمسكتُ بيد الطفلة وذهبنا للفصل وحيدتان ،أخذتها وأنا لا أعلم ماذا سأقول لها ، رغم أنه لا مسافة طويلة بين الطابور وبين الفصل ، لكنني شعرتُه طويلاً لجهلي ، حتى فتح الله علي وألهمني بتذكري لحديث أستاذة أناهيد ، وذكرها لمثال طفل ” يتجسس ” على أحدهم ، أجلستها أمامي ، سألتها : هل تعرفين معنى ” خسيس ” ؟ أجابتني وبراءة نقية جداً ترتسم على محياها : ” إيوا ” سألتها عن المعنى فقالت ” في فيلم كرتون وحدة اسمها خسيسة ، أصلاً حتى ماما تقولي لاتقولي الكلمة دي بس أنا ما أعرف انتو ليش بتقولو لا أقولها انا احب خسيسة ” حزنتُ عليها حزناً شديدًا ، تذكرتُ أ. أناهيد حين قالت بأن جميع تصرفات الأطفال التي نفسرها بطريقة خاطئة ، لو بحثنا في جذورها لوجدنا أن الطفل في جميع أحواله ، لا يقصدها . قمت بإصلاح المصطلح ، وتوضيح المعنى لها ، فكرنا في بدائل للمفردة للتعبير عن الطابور غير المنتظم، ولم أسمعها تتفوه بها منذ ذلك الحين .

واجعلنا يا الله مُباركين أينما كُنا ، واجعل أفئدتنا أشجار طيبة أصولها ثابتة ، وفروعها في السماء 

You may also like

3 تعليقات

نجود 15 سبتمبر 2013 - 12:49 ص

كم سأفتقدكم.
اللهم اجعلنا مباركين أينما كنا وثبت قلوبنا على دينك.
“عشت” في مكتبة جامعة ما في مكان ما ولكن لا طعم يشبه طعم مكتبة غرس.
مررت بالقائمات على المكتبة في يوم الأربعاء وقلت لهن: “لستن أفضل الناس عندي اليوم”
وفي يوم الخميس غصصت لشعوري أن الإعفاء من التكليف الأخير كان حقيقي!
مررت بهن هذه المرة قائلة “اليوم أنتن أحب الناس عندي”
ظنوا أني فرحت بالإعفاء
الله وحده يعلم سبب ما قلت!
كم سأفتقدكم!

Reply
إيناس مليباري 19 سبتمبر 2013 - 10:06 م

د. نجود
اللهم آمين
كل شيء في غرس مُختلف عن بقية الأشياء في هذه الحياة ..
أسأل الله كما جمعنا في هذه الدنيا دون أن نسأله ذلك ، أن يجمعنا في فردوسه الأعلى
على سُرر مُتقابلين ..

حَمد
اللهم آمين ولك بالمثل ولجميع المسلمين
حفظك الله

Reply
حمد 15 سبتمبر 2013 - 8:43 م

تصلي عليكم الحيتان في بحورها يامعلمي الناس الخير

بُوركتم

Reply

اترك تعليقا