♪ ♫
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلقّيتُ الخبر كالصاعقة ، الخبر الذي لم يطرأ حتى مجرّد خاطرة عابرة ! حين سألتُها كنت أسألها وأنا أعلم الإجابة ولكن من باب الاطمئنان أكثر جاء سؤالي لها ، فكانت إجابتها الخبر الذي لم يكن في الحسبان ! ” إيناس انتي معلمة روضة أول ” .
حقيقة لم أستغرق وقتًا طويلاً لأتقبل أو أعترض ، حفتني ألطاف الله الخفية ، ورغم أنه الخبر الذي لم يكن في الحُسبان ، إلا أنني رفضتُ إلا أن أُكمل فيه قبل أن أخوض تجربته .
بدأت تربية الله وتهذيبه لي باكتشافي بأن أطفال كثيرون يرتدون ” الحفاضة ” وبحاجة لتعليمهم ” الحمام ” ، الأمر الذي لم أفكر فيه يومًا ، لم يخطر على بالي يوماً كيف يتعلم الطفل أن يطلب دورة المياه حين يحتاج لذلك ؟ رغم معايشتي لابنة أختي لبعض الأوقات لكن لم تصلني ” المعاناة ” إلا حين قُدّرت أن نعيشها ساعة بساعة .
كان يتعيّن علينا أن يدخل جميع الأطفال ” الحمام ” كل ساعة . المُضحك هو توصيات أمهاتهم لنا بأن نُحضر جوائز تحفيزية لمن يذهب للـ” حمام ” ويحافظ على نظافة ملابسه . حسنًا في الحقيقة فعلت أفنان ذلك من قبل توصياتهم ، وكنتُ أقول ما بالها تهتم كثيراً بهذا الموضوع ، فسيذهبون للـ ” حمام ” ولاحاجة لتضخيم الموضوع !
كانوا يستمتعون بذهابهم ، وحين يعودون للفصل ، يهتفون لأصدقائهم ” سوووويت حمّام ” !! وكنا نحتفل معهم بالتصفيق و” تكريم ” الفاعل ، ويحوز في نهاية الأمر على ” استكر ” !! وحين تأتيهم أمهاتهم يكون أول ما تسأله : ” رحت الحمام ” ؟ وإذا كانت الإجابة بنعم ، تُكمل الأم طقوس الاحتفال الذي ابتدأناه .
وسط انشغالنا بموضوع ” الحمام ” كنتُ أشعر بالفقد ، فقدي للأطفال الكبار جدًا في عيني وفي قلبي ، أطفال التمهيدي الذين لا يحتاجون كلّ هذا الجهد في التوجيه ، أفتقد أن استغرق ساعة طويلة لتحضير حلقة واحدة تُقدّم خلال نصف ساعة ! أفتقد أن نفتح حوارات ونقاشات حول موضوع يشدهم ، فنتشارك البحث ويأتوني بما يُدهشوني بمعرفته . لله دُرّها من سنين جميلة مضت ..
شاهدتُ كيف تقدّم الحلقة لهؤلاء الصغار ، وجاء دوري للتطبيق ، كان موضوع الحلقة عن مواصفات الإنسان واختلاف ألواننا وأطوالنا ، عرضتُ أول صورة ، لشخصين أحدهما طويل جداً والآخر قصير . سألتهم من الطويل ؟ وكنت أشير بيدي للأعلى ، كان سقف توقعاتي عالي جداً ! أجابني أحدهم : ” يلعبو كرة سلة ” وقال آخر : ” ليه لابس أحمر ” وتبعتهم ثالثة: ” ليه يضحك ” نظرت لأفنان نظرة استجداء ، فأومأت لي بأن أُكمل وأكملت وأنا أشعر بأني كمن يتحدث مع نفسه ، وكل واحد منهم في وادٍ قصي عن الوادي الذي معلمتهم فيه !
قررت أن أعيد المفهوم كلما وجدتُ فرصة لذلك ، وفي أيام مختلفة ، لم يعودوا يلتفتون للون الأحمر ، ولا لملامح الوجه ، الآن تشغلهم فكرة حقيقية وهي أننا مختلفين في الطول ، أصبحوا يقفون بجانب بعضهم البعض ويقارنون أطوالهم ويقولون : أنا كبير وفلان صغير ” وفي أحد المرات جاءني ” هيمو ” الطفل الذي يصعب عليه سماع اسمه الحقيقي دون ” دلع ” فقال لي وهو يقف بنفس الطريقة التي كان يقف فيها الشخص الذي عرضت لهم صورته وهو يضع يديه على خاصرته ويقول : ” معلمة أنا كبيررررر ” مستخدماً ذات النبرة التي أستخدمها .. أصححها له وأنا ابتسم بأن منحني الله طفلاً يجبر القلب رغم ” قزميته ” .
كنتُ أظن خلال سنواتي الوظيفية بأني تعلمت كيف أجعل المفهوم الكبير الذي يُدرّس للكبار ، كيف أجعل منه بفضل من الله مصغراً سائغاً للصغار ، لكن مع روضة أول ، شعرتُ بأني كنتُ أدرّس أطفال الجامعة والآن أطفال الروضة ! والبون شاسع جدًا . كنت استخدم المصطلحات التي اعتدتُ استخدامها مع أطفال التمهيدي ، وكنت في المقابل أتوقع نفس ردة الفعل . مع أطفال التمهيدي كنتُ أبدأ بالعد من 1 وحتى 3 ثم أشير بفمي كمن يغلقه وأقول : صمت . في الغالب كانوا يصمتون . أما مع هؤلاء الصغار جدًا ، يصمتون ولكن ليس قبل أن يعيدوا ما قلته وأسمع كلمة ” صمت ” من أفواههم الصغيرة بشكل مضحك تبدو وكأنها صدى .يضحكونني حين يقولون : ” سَمت ” وبعضهم يضيفون لها البهارات فيُتبعون الـ ” سَمْت ” بـقولهم : ” اششششش ” .
حين كنتُ – وما أجمل ما كان – معلمة التمهيدي ، كنت أخبر صديقتي أمل بأنني أحب جداً جدًا وقت الوجبة الثانية التي يحضرونها من منازلهم ، كنت أخبرها بأنني أشعر بأنها ” جلسة شاي ” معهم ، كنا نفتح فيها مواضيعاً ، ونجري مسابقات حتى من حماسنا كانت مديرتنا في كثير أحيان تخرج من غرفتها وتشاركنا الإجابة ، كان ذلك يسعدني كثيراً . أما الآن ، فجلسة الشاي لم تعد كذلك ! غدت كأنها “جلسة كبسة ” ! لم أعتد أن يُحضر الأطفال أرزًا أو أصناف أطعمة تحتاج لتسخين ! أصبحنا نقسم مهامنا ، معلمة تجلس على الطاولة تستقبل الأطفال والثانية عند حقائبهم تساعدهم في إخراج وجباتهم ، ثم تبدأ ” جلسة الكبسة ” ! أشعر حينها بأنه كمن تعلم كيف يكتب جُملاً طويلة جدًا لكنه فجأة اكتشف أنه لا يعرف الحروف أصلاً فكان حريّاً به أن يعود للوراء ويتعلم أ ، ب !
وللمواقف المضحكة النصيب الأكبر مع هؤلاء الصغار جدًا ، في أحد المرات التي كنا نلعب فيها ألعاب حركية وألعاب أصابع ، كنت أمثّل بأني آكلهم فأدغدغهم ويضحكون ، فجأة ، باغتني أحدهم بـ ” كف ” محترم جداً ، كان الموقف درامي جدًا وكان هذا أول كف أتلقاه من طفل في تاريخي كله ! وعندما شاهد ردة فعلي الواجمة ، ارتبك ، لا أتذكر ماذا قلت له لكنه قال لي : كنت ألعب !
في أحد الأوقات التي كنا نشاهد فيها مقاطع فيديو ، أخبرتني إحداهن أنها تريد أن تجلس في حضني ، فأجلستها والبقية حولنا على الكراسي يجلسون ، وفجأة شعرت بشيء … فسألتها إن كانت تحتاج لحمام ؟ صارت تبكي وتقول : ” لا أنا ندِيفة ” فعلمتُ أنها فعلتها فوق حجري ، في اليوم الذي قررت فيه أن أرتدي فستان !
وفي نفس الفترة في وقت آخر ، بينما الكل منسجم مع ما نشاهده ، هزّني أحد الأطفال وقال لي : ” معلمة إيناس شوفي ” .. وخلع عن كتفه وقال : ” شوفي خدّي ” وهو يلصق خده بكتفه ! ما أجملهم حين يفعلون أشياء لا أعلم كيف من الممكن أن تطرأ على قلب بشر !
خلال الأسابيع الماضية ، تعلمت أموراً ما كنت لأتعلمها لو عكفتُ عليها سنيناً طويلة ، وكان أكثر ما أردده : ” الله يعين الأمهات ” علمتُ كيف تكون التربية جهاد ، علمتُ كيف يبتليك الله في خصال كنتَ تظنّها متأصلة فيك ! فإذا كنت طِوال عمرك تظن بأنك أمين في عملك مُخلص ، فستأتيك أقدار الله التي يفسرها قلبك بأنها كالرعد في قوته ! وسيكون أن يُمطر قلبك بما اعتدته عسير جدًا ، وهنا يمحص الله كلّ ما أودعته في قلبك . تعلمتُ بجانب أن ندعو للأطفال ، أن ندعو الله أن يكفينا شرهم ، كما علمتنا د. نجود . علمتُ بأنه لكي أكون معلمة ناجحة لابدّ أن يكون في رصيدي (خبرة) التعامل مع روضة أول ، تعلمت كيف يعزّ الله أقواماً ، لكنهم لا يفطنون بالعزة التي منحهم إياها ؛ لأنهم ينظرون للأمر بالمنظور المتعارف عليه اجتماعياً ، لا بعين البصيرة التي أنارها الله لهم لكنهم يأبون إلا أن تنطفئ .
فاللهم يا الله اجبر نقص أعمالنا ، واجعلنا مباركين أين ما كنّا ، واجعلنا من خيرة من يعلم الناس الخير