♪ ♫
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تبدأ خطيئتي الأولى في الروضة ، إذا مرّ طفل من أمامي ، وشاهده أصدقاءه ، ولم ” أصبّح عليه ” ! يصيحون بي : ” يا أبلة جا أحمد ماقلتيلو صباح الخير !! ” اعتذر من صديقهم دون أن أخبره وأخبرهم بأنه ثمة أمور كثيرة تشغلُ بالي بطريقة تجعلني أنظر إليه ولا أراه ! ذلك لأني أرى الوجوه جميعها وجه واحداً حين تؤرقني أفكاري ومهامي التي طال انتظارها حتى تُنجز !
نجلسُ في الأرض لتبدأ حلقتنا ، أتذكر أنني بحاجة لإسناد ظهري ؛ أبرر لهم سبب جلوسي على الكرسي ، حيثُ أني لا أفعل ذلك إلا نادراً ، فور انتهائي من قولي : ” المعلمة جالسة ع الكرسي عشان ظهرها يوجعها ” أشعرُ وكأنني أسمعُ صدى لما قلته لكن بنبرات مختلفة ! تُبادر لمار بإمساك ظهرها قائلة : ” يا أبلة حتى أنا ظهري مرة يوجعني ” ولا أملكُ الوقت لأتفوه بكلمة ، حتى يتحدث آخر باختلاق سبباً آخر كألم رجله أو عينه أو أعضاء لا تمتّ بالجلوس على الكرسي بصلة ، على كل حال ، ينتهي الأمر بقول كل واحد منهم ما يشكو منه من ألم ، للحد الذي يجبر الكثير منهم للبحث عن أدنى شيء يُخبره المعلمة ، حتى لو تطلب الأمر . . قرصة ناموسة !
نذهبُ للعب في الخارج ، وأكثر ما قد يُشعرني كم أنني متورّطة ، حين أكون تحت وطأة ألمٍ ما يمنعني من أن أقفز معهم ونتسابق بالدراجات ، أودّ في ذلك الوقت لو أن بالإمكان خروج كلماتي كما هي ، دون أن أُعيرها اهتمام لمن سأقولها أو كيف سيفهمونها ، لا شيء مما أرغبُ به حدث ، تخرج مني الكلمات لطيفة عليهم ، شاقّة عليّ . . . . عظيمة عند الله
يبدأ ” بريكي ” فأشعر بأن شيئاً من الروح قد عاد ، ذلك الـ ” بريك ” الذي يذهب رُبعه في تطبيب هذه وتلك ، في فضّ النزاعات القائمة فيمن يجلس بجانب عُمر الذي ” يتغلى ” على أصدقائه الذين يُظهرون له الكثير من الحبّ ، يذهبُ الـ ” بريك ” اليتيم في محاولاتي المستميتة لأن تتركني تلك الطفلة وإقناعها بأني سأعود بعد ارتياحٍ قليل . ينتهي الأمر بأن أغمض عيني وأفتحها ، الساعة تُشير إلى الحادية عشر ، آه إنها فترة الأركان ! أركضُ لألحق بالركب الذي عليّ مُسايرته . .
يحينُ وقت الوجبة ، يسألني أحدهم بأن أفتح له مغلف البسكويت ، ويتحاشاني بنظراته التي أعلمُ مغزاها ، لكن ألم رأسي الذي يفتكُ بي يضطرني على تجاهلها ، أفتحها له ، فيرشقوني بقية الأصدقاء بعبارات التأنيب ! يذكروني بأنه من قوانين الوجبة أن يعتمد كل واحد منا على نفسه ، وما تقوم به المعلمة ؛ المُساعدة . يذكروني بأنني دائمة الرفض لمن يقول ” افتحيلي ” لكنني أرحّب بعبارة ” ساعديني ” تلك التي تعني أن أمسك يدي بيده وأعلمه خطوة بخطوة كيف يثبت أصابعه الصغيرة من جهتّي المغلف ويسحبه بقوة ، أُدرك كل ذلك لكن ألم رأسي الذي يفتكُ بي ، يجعلني أتظاهر بالنسيان ، وأؤكد له بأن عليه أن يحاول بمفرده في المرات القادمة ، من باب ” ترقيع ” ما حدث !
لا أشعرُ بأني قدوتهم إلا حين ألحظهم من خلال الباب ،في أي مكان أعملُ به وقد تجمهروا محاولين رؤيتي وأنا احتسي قهوتي ، أُكمل لوحةً ما ، مُحادثتي بالجوال ! تصلني أصواتهم وعيونهم مفتوحة على آخرها من دهشتها : ” شوفوووا الأبلة شووفوها ، يتأملوني بطريقة مُربكة بعض الشيء ” أتذكر عدد المرات التي أُنادي بها صديقتي بـ ” بنو ” على مرأى ومسمع منهم ، الأمر الذي يجعلني أتدارك الموقف حين أسمع ضحكاتهم ” قالت بنو !! ” فأُعيد صياغة النداء .. آآ معلمة بيان !
تتسرّب الدقائق تسرباً متواتراً ، سريعاً ، ولا تنتفس الصعداء إلا حين تحينُ الساعة الثانية ظُهراً ، تلك اللحظة التي أشعرُ فيها بأن أبواب الجنة الثمانية قد فُتحت على مصراعيها ، فأُهرول نحوها ! . . . أضعُ رأسي على وسادتي ، وبشكل لا أستطيع التحكم به ، يذكرني دماغي بكل طفلٍ نسيتُ أن أفي بوعدي له ، يذكرني بهنّو التي عادت لمنزلها دون أن أعطيها ” ستكر ” نجمة وردية اللون عوضاً عن الذي سقط منها وسبب كثير بكاء لها ، يذكرني بسهوي عن تسخين الحليب ليوسف ، الذي أخبرني مرةً واحدةً فقط بأنه يفضله ساخناً ، يذكرني بسهوي للمرة التي نسيتُ رقمها ! بأن أُخبر والدة فَي بأن تسمح لها بجعل شعرها مفتوحاً لأنها تحبّ أن تراه يطير ! . . وأكثر ما قد يُضنيني من أن أدخل في سُبات عميق ، هو نسياني بأن التقي بوالدة تلك الطفلة ، لأخبرها – بشكل لطيف لها وعسير عليّ – بما حدث مؤخراً لطفلتها ، تبول لا إرداي ، ضرب ، …. الخ . أتذكر عجزي عن معالجة بعض المشاكل السلوكية ، أتذكر كل شيء لم أستطع إنجازه بإحسان ، أتذكر أخيراً بأني لم آخذ المسكّن بعد ! اوه . . لقد نفذت الحبوب أجمعها ! ألجأ للبنادول الذي يعني لي كشاي بالماء البارد كالذي كانوا يخدوعنني به في الصغر ، ذلك الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع . .
تحدث كل تلك الأمور المزعجة ، ولا يُزيلها إلا سجدة واحدة ، أدعو فيها الله أن يجعلني خير قدوة ، وخير معلمة ، وأن يُلهمني الصبر والصواب في القول والعمل . . تنتهي سجدتي ، ويبدأ مفعولها بالسريان في أوردتي ، وأول مايحصل أن يُهيأني الله لأستطيع النوم دون حبتّي بانادريكس ، تقوم هذه السجدة الخاشعة بإزالة كل الأفكار السخيفة التي قد طرأت على بالي ، ماحية كل الاعتقادات الخاطئة عن نفسي ، إنني أتعلم من الأطفال ، وأعلمهم . يخطئون وأصوّبهم ، وحين أُخطأ يسخر الله من يقوّم اعوجاجي .
يمرّ شريط الذكريات للوراء ، أتذكر كل معلماتي ، أبلة نسرين ، معلمتي في الروضة ، معلماتي في الابتدائي والمتوسط والثانوي ، أستاذاتي ودكتوراتي في الجامعة ، مديرتي ومشرفتي في العمل . . يارب جازي كل معلماتي بأكثر مما يستحققن ، واكرمهن من حيثُ لا يحتسبن ، وانفع بنا الأمة ، واجعلها يا الله . . تنتفع بنا .