♪ ♫
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان لا يرغب، ورغم أنه غير راغب لما حدث، لكنه قرّر أن يمضي مُستعينًا بالله، قوّاه الله وشدّ من أزره، فلم يستمع لآراء من حوله بأن ينثني عن قراره، وعلى الرغم من علمه بأن نصائح من حوله، ما أتت إلا من حُبهم له، ومن خوفهم بأن يزيد بلاء على بلاءه،لكنه ورغم تكرار المحاولات، ثبّته الله.
قلبي الذي كان مُعلّمًا، مُعلّمًا لأطفال الثالثة،قلبي الذي أحبّ ما هو ليس بالحُسبان، قلبي الذي علّمه الله، فعلّمني كيف أكون مُعلّمة. هذه التدوينة هي الأخيرة، آخر تدوينات كوني (كنت) معلمة روضة أول.
ما الذي علّمني الله خلال العام الدراسي؟ وإن استكثرتُ في الكتابة، واستطلت، فلن أُحصي ما أنعم الله قلبي به. لكنّها محاولة لإحصاء ما يُمكن إحصاؤه.
أوّل ما علّمني الله هو أنه لن تُصقل حقّ الصقل إلا إذا خرجتَ من منطقة الراحة التي اعتدتها! ولا أقصد بذلك بأنّ كوني معلمة سابقة للمراحل العُليا لم يصقلني ، لكنّها مقارنة بأطفال الثالثة، تعدّ كارثة! ولستُ أبالغ بهذا الوصف! ومازاد العُسر على قلبي هو كوني لستُ أمّــًا بعد! لم يتبيّن لي هذا الأمر، إلا حين كان قلبي يرقُب صديقتي أفنان ، كنت أجد ما عسُر عليّ ، يسّره الله لها ، فكانت تأخذ مني الكثير من المهمات في بداية الأمر، وكنتُ لا أجدُ حرجًا في تفويض الكثير من المهام التي لم أملك أدنى فكرة في كيفية تخطّيها بسلام . وماكان يزيد عجبي وتعجّبي ، هو إنهاءها للمهمة بأسهل طريقة! ومن سهولة الطريقة، لم تخطر على بالي!
وهذا ثاني ما علّمني الله إياه، أطفال الثالثة، يرضون بالقليل والبسيط من الأشياء، وإن كان أطفال مرحلة الروضة عمومًا طاهرون لم تتلوث قلوبهم، لكن تبدو هذه الطهارة مُشعّة في قلوب أطفال الثالثة، الأمر الذي يسهّل على المعلمة جذب انتباههم.
في المرّات التي كانت الفوضى هو عُنوان حالنا في الفصل، طفل فوق الطاولة يقفز، وآخر تحتها يمارس هواية الزحف! وآخر يتفنن في كيفية إغلاق الباب بأقوى صورة، ورابع قد زيّن الحائط برسومات ابداعية.. بكل هدوء تأتي أفنان، تجلس في الحلقة، قد تُحضر سبورة صغيرة وقلمًا ، وتجمع حولها الأطفال الهادئون، وتشكّل حلقة صغيرة حولها، علمتُ فيما بعد أن جذبها لهؤلاء الأطفال، هم عامل جذب للبقية، المهم وتبدأ بسرد حكاية، عن ابنتها (موني) وابنها (هشومي). كنت أحدّث نفسي في قرارتها وأقول: ” بالله هادا وقتو!!!!!!” لكنني كنت انظر وانتظر … المهم تبدأ في تخيل أحداث حصلت لابنيها ، وتقصّها للأطفال بطريقة الرسم، وبشكل لا إرادي، يبدأ الأطفال بالتجمع شيئًا فشيئًا، فتكبر الحلقة التي كانت صغيرة، حدث هذا غير مرّة، الأمر الذي أكّد لي بأن كثير من المواقف إن تعاملنا معها بهدوء ورويّة ، سنجني بإذن الله النتائج المنشودة.
تعلّمت هذا الأمر من أفنان، وبدأت أطّبقه، أن أتخيّر أبسط الأشياء! وهذا ما لم اعتد عليه. وفي كل مرة يوفّقني الله وينجح الأمر، يسعد قلبي كثيرًا، بأني تعلمت طريقة جديدة!
ومع مرور الوقت، راقت لي الفكرة! فصرتُ أُبدع في طُرق اختيار أبسط الأشياء، وأختار أكثر طريقة فُكاهية لتنفيذها فأنفذها، الأمر الذي يبدو تافهًا جدًا للمارّين! لكني كنت لا أجد حرجًا في ذلك أيضًا.
وأذكر بأني ” زوّدت العيار شويّة ” ، ذات مرة ، كنا نلعب في الخارج، وكان الأطفال يشعرون بالملل ، وبدؤوا يتذمرون ويفتعلون المشاكل! المهم قررت إنهاء الموقف بأول فكرة تخطر على بالي ، وهذا ما فعل!
أخبرتُ الفتيات بأني سأجري والتي تُمسك بطرف شعري هي الفائزة، وكنت أربطُ شعري كذيل الحِصان، استمتعنا بالركض والضحك، ولم أشعر بفداحة ما فعلته إلا حين تزامن إمساك سارة لشعري ونشوتها كونها الفائزة، وحدوث مشاجرة باليد بين اثنين من الأطفال الذكور !!!! يحدث هذا وسارة تشدّ شعري للأسفل وتقول :” أنا مسكتووو يامعلمة .. أنا فزت” لم تقتنع سارة بأن تترك شعري، حتى لايضيع جُهدها هباء منثورًا، رغم انتباهها لضرورة توقفي عن اللعب لإنهاء المشكلة، المهم لم أكن أملك الوقت، فما كان مني إلا أن أصبحتُ أحل المشكلة وأنا برأس مائل للأسفل!
ومما أكرم الله به قلبي ، أن أراهُ أكثر ما رغب فيه، أن يتعلّق الأطفال بالله، لم يكن يُرضيني أن يعرفوا إجابة : من ربك؟ كان سقف توقعاتي منخفضًا ، ولأسباب سبّبها الله لي ، ارتفع وشهق، فأصبحت للمزيد، طامعة!
فترة القرآن من أكثر الأوقات التي يكون فيها قلبي مترنّمًا، أشعر فيه بأن إيماني يتجدد، رغم بساطة ما نخبرهم به، لكن ردات فعلهم وهدوءهم، السكينة التي أراها على ملامحهم الصغيرة، ابتسامتهم حين أخبرهم بأن الله حفيظ ورحيم ونضرب أمثلة بذلك،أطفال الثالثة يُظهرون ردات فعل سريعة وواضحة، وهذه في فترة القرآن ، نعمة كبيرة!
تعلّمنا في الفصل الدراسي الثاني عن سورة الفاتحة، وآية الكرسي. كنا نتعلم عن أسماء الله الحُسنى في السورة، وعن أفعاله، المهم سألتهم مرة : من يخبرني بأشياء خلقها الله عددها واحد، مثل آية الكرسي؟ قالوا أشياء كثيرة،ومن خلالها تعرفنا على عظم خلق الله ، قلب ، أنف ، فم ، لسان، معدة ، شمس ، قمر .. المهم وأصبحت كل يوم أخبرهم بنفس السؤال ، ويندر أن يجدوا شيئًا جديدًا مالم ألفِت انتباههم له. سألتهم بعد مرور شهر تقريبًا، ذات السؤال، وأنا لا أتوقع إلا كما السابق ، فاجئني الله بإجابة إبراهيم ، قالها وهو مبتسم :” معلمة الله بس واحد ” .. يا الله ما أكرمك.
سارة، التي أشغلتها فكرة أن الله ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) بعد أن أخبرتهم أن (ماما ) مهما كانت تحبنا ، فإنها تتعب وتنام، فمن يحفظنا إن حدث لنا سوء حينها؟ المهم ومنذ ذلك اليوم ، حتى أصبحت سارة تسألني ثلاث أو أربع مرات على الأقل، خلال اليوم وفي أوقات مفاجئة، أثناء تناولها للوجبة، تقول :” معلمة .. معلمة .. معلمة.. ” تنتظر مني أن التفت إليها بينما أنا منهكمة مع أطفال آخرون، وقد يمضي الوقت ولا انتبه لندائها، لكنها ولأن شيئًا عميقًا في داخلها، يدفعها لأن تستمرّ بالنداء، حتى تنبّهني إحدى المعلمات المارّات أحيانًا بأن سارة تناديني منذ وقت، فأتوقع بأنها تحتاج لمساعدة في فتح أحد مكونات وجبتها، فتقول: ” معلمة إيش يسير لو الله نام؟ ” هي تريد مني الاستماع فقط ، أصبحتُ أعلم السيناريو، فأصمت وأُبدي ملامح الدهشة على وجهي ، وأقول لها : ” انتي قوليلي ايش يسير؟ ” فتقول : ” بعدين مين يحفظنا ؟ ويرزقنا؟ ويساعدنا ؟ ” .
مما علّمني الله به، أن مزيدًا من الصبر، ينفع ولايضرّ ! مع أطفال الثالثة، أنت لا تحتاج لأن تكون شخصًا صبوراً فقط! بل تكون صابرًا مُتصبّرًا . تعلمت كيف أضع الصبر على الصبر ، حتى أكون مُتصبّرة. وفي مرات كثيرة، وفّقني الله لأن أكون كذلك. ولا أعلم بأني نجحتُ بذلك إلا إذا خرجتُ من الفصل ولستُ بغاضبة .
في المرات التي نضطر فيها أنا وأفنان ، لأن نكون معهم ثلاث ساعات متواصلة، وينتهي الأمر دون أن أشعر بأني ، مُستفزَّة، حينها يأتيني الخبر بأني قد اجتزت! والحمد لله.
مما علمني الله هو أنّ أكون بمثابة ” السايس” للأطفال العنيدون صعبو المراس ! أذكر أني حضرتُ عرضًا لمدرب وكيف أنه استطاع التعامل مع الحيوانات المفترسة، حسنًا حين دخلت العرض، وضعت في الحسبان، أن الحيوانات المفترسة،هم الأطفال العنيدون، إذا واجهني طفل عنيد،غضوب، كيف أتصرف؟
المهم كان العرض على فقرتين، أسود، ونمور، بدأ بالنمور، ثم أدخلهم بالإشارة، وأخرج الأسود، لكن نمرًا عنيدًا أبى إلا أن يجلس ويتربع في مقدمة المسرح! حسنًا حاول المدرب أن يدخله ” بالسياسة” يحدثه ويشير له، ولمّا أبى ، تركه مستلقيًا ، وأمضى عرضه كما ينبغي ، ما الذي حدث ؟ بعد فترة وجيزة، دخل النمر بمفرده، دون توجيه!
أصبحتُ في كثير من الأحايين أستخدم الأسلوب ذاته، ولما لم يُجدِ الأمر نفعًا، أتركه على مرأى من عيني ، وأمضي في النشاط، العجيب بأن الطفل ذاته، في كثير من الأحيان ، وبعد أن تذهب فورة غضبه وعناده، ينتظر مني ابتسامة أو إشارة؛ليعود! ولما فهّمني الله، ففهمتهُ، أصبحت انظر إليه وابتسم من بعيد، فيأتي ليعانقني وقد يخبرني ما لم أستطع فهمه خلال ساعة ! أعترف بأن الأمر لا ينجح دائمًـا ، لكن في مرات كثيرة ، رأيت في ذلك نفعًا.
بعض أطفال الثالثة،صعبوا المراس، علموني كيف أعانقهم، وفي داخلي بركان من غضب ، مما قاموا بفعله من تخريب وشغب، لكن قليل من الصبر ، على صبرك، يُجدي بإذن الله.
مما علّمني الله ، أن أتدرج ، حتى أرى الثمار يانعة ، تسرّ الناظرين. وهذا ما فعلته في تعليمهم للمفاهيم. كنا نخبرهم بداية في توجيه السلوك بأنه صحيح وخاطئ ، ولما أدركوا ، انتقلنا بأن العمل الصحيح هو خير، والعمل الخاطىء هو شرّ ، وكررناها ماشاء الله لنا أن نكررها ، ثم ارتقينا لمفهوم الصلاح والفساد، هناك أعمال صالحة، وأعمال فاسدة غير صالحة، في البداية كانوا يكثرون السؤال: إيش يعني خير ؟ لكنهم مع اعتيادهم على انتقالاتنا المتدرجة والمخطط لها، لم يسألوا عن معنى الصلاح والفساد. لكنهم حين يرون موقفًا ، يستطيعون تصنيفه فيما لو كان صالحًا أو غير صالحًاه.
كما أن الله أكرمني ولأول مرّة، أن أتأمل تقلبّات الإنسان النفسية، من كونه يحب التملّك، وكيف أنه يتعلم الانفصال، ويدرك أن ليس كل ما حوله هو مِلك له! أطفال الثالثة، كانوا ملتصقين جدًا بنا،وشيئًا فشيئًا، ينفصلون عن معلماتهم وأمهاتهم ، حتى وصل الحال لنهاية العام بأن بدؤوا يكوّنون صداقات ، ويميل أغلبهم للعب الجماعي، بعد أن كانت طريقة لعبهم فردية! ينموا عندهم حب الصداقة، والولاء للصديق،كما تنمو عندهم بذرة المشاركة والإيثار للصديق.
حسنًا ، لا أدري إن كنتُ قلت كلّ ما أريد قوله ، آخر ما أريد قوله ، هو أنّني في بداية العام، كان بابُ قلبي مُغلقًا، أما الآن وقد وصلنا لنهاية المطاف، أصبح باب قلبي، مُواربًا ، مكّنني الله بالتجربة بأن أجعله مُواربًا ، تُمكنني تلك الفتحة الصغيرة من رؤية عالم كبير، عميق.
سطر أخير :
أطفالي الأربع والعشرون : أنتم أبنائي الذين لم ألدهم، أنتم الحبّ الذي لم أتوقعه.
أفنان: كنتِ في عينِ الجميع ، معلمة روضة أول ، وكنتِ لقلبي ، الأمّ الرؤوم، الحمدُ لله على نعمة أكرمني الله بها،عنوانها أنتِ.
مشرفتي أ.هبة: انتهى الأمر على عكس ما ابتدأ ، أحببتُ فيك أشياء كثيرة، كنتِ مشرفة بقلب المعلمة، جوزيتِ خير الجزاء.
مديرتي أ.أماني : أنتِ لقلبي المشرفة الأولى ، التي شقّت طريقي وصحّحت مساري، أكرمكِ الله بما يُكرم به أولياءه.
صديقاتي وأخواتي: دعاء،حنان،نوف،نهى،رنيم،عفت،صابرين،أمل،خلود،أمل،لينة،سمية،بيان،هبة،أنوار،إلهام،مها / أحبكنّ يامعلمات تعلمتُ منهن الكثير ، شكرًا لكل مساندة قمتنّ بها علانية أو خفاء، ممتنة لله على هبته لقلبي ،بكنّ.
وحان الوقت الذي أقول فيه : وكنتُ لروضة أول، مُعلّمة!
الحمد لله الذي بنعمته الصالحات