♪ ♫
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حاولتُ بدايةً أن أجد شيئاً أستطيع إسقاطه عليه ، فيكون ذكري للشيء المألوف ، تعبيراً عن هذا الشيء . لكنني لم أتمكن . ثم حاولتُ ثانية أن أجد عوضاً عن الشيء ، جُملة أستطيع بها وصفه ، لكنني وللمرة الثانية لم أتمكن . فوجدتُ أن خير ما أفعلهُ هو : أن أدوّن عنه .
أذكر أني ذكرتُ في تدوينة سابقة ، بأنّ الله أودع في قلب كلّ واحد منّا بذرة ، مُهمتنا هيَ انباتها . الآن أرغبُ بأن أُضيف بأن الله لم يودع بذرة واحدة فقط ، أودع فينا مجموعة من البذور ، في تُربة قلوبنا ، ثمة بذور ، يسهُل علينا إيجادها بعد قليل حَفر . ثمة أنواع من البذور ، عصيّة على الظهور ، الله قدّر لها أن تكون في عُمق القلب ، الله شاء أن يختبر إلى أيّ حدّ سيستمر كلّ واحد منا بالحفر ، بحثاً عن البذرة المفقودة . هُم علموا بأن بذرة ما مفقودة ، لأن منطقة ما من قلبهم ، لاتزال مُعتمة ، وقلب المؤمن كله نور ، فمتى وُجدت العُتمة ، يعني بأنّ شيء ما لم يتمّ حتى الآن . المهم بأن منّا من سيكتفي بالحفر السطحي ، ثم سيولي دُبره ، وسيمضي في متاهات الحياة . ومنا من سيصل في حَفره لمنتصف الطريق وما إن ظهر له طرف البذرة ، ولم يُكلف نفسه بأن يقلّبها يُمنة ويُسرة ، ويُحاول التفكر في الحكمة من جعلها البذرة العميقة ، عصيّة الظهور . فشكلها يُشبه سابقتها من البذور ! يتأسف هذا الأخير على عناءه ، دون جنيه لشيء كبير كما كان مُتوقع . الصنف الأخير منّا هو الذي يستمر في الحَفر حتى بعد إيجاده للبذرة . هُو لم يكتفِ بالحصول عليها ، بل نفض عنها التراب ، وزاد على فعلته هذه بأن أوجد لها وعاء وأودعها فيه ، ريثما يُدرك كنهها ، إنه يعلم يقيناً بأنها بذرة مُختلفة ، وإن كان ظاهرها لا يُوحي بشيء مما يُخبره به قلبه . لكنّ يقينه بأن رسالة الله ستصله ، لذا فهو يفعل كل هذا من أجل : بذرة “عادية”.
( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) صديقنا هذا الذي قرر الاحتفاظ بالبذرة في ركنٍ قصّي ، لاحظ حركة خفيفة في بذرة قلبه ” العادية ” جداً ، عندما قرأ هذه الآية ، جهاد ؟ هداية السبيل ؟ أهذا ما تعنيه هذه البذرة ؟ نحنُ قوم لا نستطيع الجهاد ، يبدو أن هذه البذرة لا تعنيني ! كان هذا أول ما طرأ على ذهن صديقنا . وبدافع الفضول ، قرر أن يمضي الطريق ويسير معها خطوة خطوة . يقول ابن القيم في تفسير هذه الآية :
إنّ أكمل الناس هدايةً أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته،ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد .. ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطناً، فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نصرتْ عليه نُصِرَ عليه عدوُه
الجهاد في سبيل الله بالسيوف وبالدعوة للدين ، هو أشدّ وطأة إذا حمي الوطيس ، ولأنّ الله لا يجمع عُسرين لذا فإن المُجاهدين في سبيله يُسهّل الله لهم وضوح الهدف ، والفكرة ، كل ما ينبغي عليهم هو : تجهيز الجيش ثم الإقدام . أما في جهاد النفس ، فالأمر مُختلف ، عليك أن تُجهز جيوشك وحدك ، أن تبحث عن الفكرة ، الهدف ، الطريقة . . وحدك . والله معك وهو مُعينك . هو معك إذا اجتهدت في السعي نحو أن تلقاه بالطريقة التي تُرضيه عنك . كما قال مُصطفى محمود : إنّ الله أقرب إلى الذين يجتهدون في فَهمه ، من الذين يُؤمنون به إيماناً أعمى .
في غزوة الأحزاب ، حين أخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بأن يُصلوا في بني قُريظة ، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق وقال لم يرد منا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض , فنظروا إلى المعنى , واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا , نظروا إلى اللفظ . المُجتهدون نحو فهم الله مأجورون دائماً ، تُعرض عليهم شتّى الطُرق والدروب ، ومن بين كل الخيارات المُتاحة ، هم يغضون الطرف عما يعتقدون – باجتهادهم – أنه خاطئ ، ثم يلجون في دربٍ يحسبونه – باجتهادهم أنه الصواب . بعد ولوجهم قد يكتشفون بأن ماكان عليهم اختيار هذا الدرب ، فيعودون لنقطة البداية ، هم لا يفكرون في جيئتهم وذهابهم المتكرر كم أن ذلك مُضنى ومُرهق ، فالبذرة العادية جداً بدأت تثمر فيهم من حيث لا يعلمون ! لذا فشغلهم الشاغل هو : الوصول إلى الطريق الصحيح . ويستمر دخولهم وخروجهم من أبواب الحياة ، إلى أن يشاء الله إرسائهم على الدرب الصحيح بعد أن تمحّصت قلوبهم ، وذاقوا أنواع المعاناة والتي قد تجيئ في إرسال الله لما يحبون ويرغبون ويكرهه ، إنه بذلك يزيدُ من قوة جهادهم في سبيله ،من أجل مرضاته ، فيُكثر الفتن من حولهم بعد أن عرفوا الطريق المؤدي إليه . (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) .
بعد أن أينعت البذرة العادية جداً في قلب صديقنا الذي ماكان يدري بأن الأمر سيتمّ على هذا النحو ، رغم أن بذرة واحدة فقط ، هي من أينعت ، إلا أنه وجد في حياته ، اختلافاً كبيراً ، اختلافاً لا يعلمه من حوله ، ولا يلحظه ، فكلّ البحث الحثيث ، والدروب الوعرة التي سلكها ، ونجا منها ، كانت في قلبه وحده . علم أن مهمته لم تنته بعد . فبعد أن استطاع أن يُجاهد نفسه ، قلبه ، هواه ، ودُنياه .. عليه أن يحافظ على ما وصل إليه . وهنا تكمن الصعوبة . عليه ألا ينتكس ، الانتكاس بعد الصلاح أمر لا يُطيقه بشر .
صديقنا يعلم بأن الأيام ستمضي ، وستغفو عينه عن رعاية النبتة – البذرة العادية جداً أصبحت نبتة – وأثناء غفوته أو قُل غفلته ، ستتلقّفها الريح من كل جانب ، قد يُنتزع منها ورقة أو ورقتان ، ويعلم أيضاً بأن ما سقط من النبتة بالإمكان دائماً دائماً إعادته إذا وُجدت النية وتجددت كلما غفل صديقنا وسهى .
آخر ما فعله صديقنا هو إتمامه للآية التي كانت في بداية الأمر ، الفتيل الذي أعطى للبذرة العادية جداً ، النبض . . ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) . المُحسنين ؟ خصص الله معيته للمُحسن في جهاده واجتهاده . وللمُحسن دائماً عند الله مكانة ورفعة وقدر لا يصله أحد من خلقه . يقول عبد الله المفلح :
إنّ الجهاد في سبيل الله يُعطي كلّ شيء موقعه المُناسب من حياتِنا ، لا تعرف الحياة بشكلٍ جدّي إلا حين تُجاهد في سبيل الله .
عبد الله وإن كان يقصد بالجهاد هُنا : الحرب ، لكن الأمر عينه ينطبق على أعتى أنواع الجهاد ، جهاد الهَوى . الذين يجاهدون – بقلوبهم – في سبيل الله ، لا نعلمهم الله يعلمهم ، إنهم عاديون جداً – تماماً كالبذرة – يرتكبون الأخطاء ، يقعون كثيراً ، يفعلون ما يفعله الذين لم يكتشفوا البذرة العادية جداً ، الفرق هو أنهم سريعوا الفيئة ، يعلمون بأن البشرية من الأشياء التي أودعها الله فيهم ، ولو ما ارتكبوا أخطاء تلو الأخطاء ، لخلق الله بشراً غيرهم ، يخطئون ويتوبون . لذلك فإنهم في كل مرة يخطئون فيها ، يتألمون يبكون ، لكن ذلك لا يمنعهم من البحث عن الثغرات الجديدة التي غارت قلوبهم ، ويحاولون سدها بما يُعينهم الله على فعله .