فوضى مُنظّمة !
♪ ♫
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان يصنعه، ولا يدري، بأنه يُصنَع، لكنّه امتثل للأمرِ لمّا جاءه، جاءته الكلمات قاسية، ممن حوله، كيف لنبّي، يتحوّل لنجّار، يُصاحب الأخشاب! يبني سفينة، في انعدام الماء! لكنّه لم يُلقِ لأيّ من تلك الكلمات، بالًا، لأن الأمر من الله، فهو يعلم علم اليقين أن عاقبة الأمر ستكون خيرًا، ولو … بعد حين.
في كلّ أمر يمرّ فيه الإنسان، يُريد الله به خيرًا، يصنع شيء في قلبه لم يكن موجودًا، يرمّم معنى كان مترسبًا، يصحح مفهومًا، يُقوم اعوِجاج، يُطيّب جَرحًا، يُسدّد، يفعل أشياء كثيرة، قد خطّط هذا الإنسان لها طويلًا، ولم يفلح لتنفيذها! يقدّر الله أقدارًا، حتى يصنع تلك الأمور في قلبه، فلا تتغير حياته، فالحياة تظلّ هي الحياة، تحتفظ المخلوقات بخواصّها ، الشمس تظل ساطعة، والزرع أخضر،لكن نظرتك للأمور تغيرت، فتظن حينها، أن الحياة بأجمعها، قد تغيرتْ! (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل:88]
نوح عليه السلام، جاءه الأمر من مولاه مباشرة، (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ)[هود:37] لكن الأمر معنا لا يكون كذلك! لا يأتينا الأمر مباشرة من الله، الله لا يخبر كل واحد منا، ما يفعله تحديدًا، بيّن لنا الطريقين، بطرقٍ واضحة، أعطانا أمثلة لأقوام سبقونا بأزمنة طويلة جدًا، كرّر قصصهم في القرآن في مواضع مختلفة، لماذا؟ حتى نظل نذكرهم، حتى يرتفع لدينا معيار الصواب والخطأ، حتى يستطيع الواحد منا ترجيح أعماله، بعد أن يقيسها على ما يرضي الله.
يحدث أن تسير في طريقٍ، لا تعرف هل هو هذا الطريق الذي كان ينبغي أن تسيره من البداية، أو أنك أخطأت الطريق، هل شعرتَ بالندم مرّة؟ أو مرّات؟ وتمنيت لو أنك عُدت للوراء قليلًا لتسير مع الجموع الكثيرة مع علمك أنها (ضالّة) للطريق؟ لكنك أوشكت أن تضلّ.. مرّة أخرى؟ لأنك تظن ظنًا بأنك بمفردك، وأنك تخيلت كما الأفلام، وحيدًا سائرًا في ممر ضيق،حاملًا في يدك شُعلة، قاربَ فتيلها على النهاية، تخشى الظلام… والنهاية لا تعلمها؟ سيُهيئ الله من أمركَ رَشدًا، الله يُعين الصادقين، ويصنع في قلوبهم ما لا يصنعه في قلوب غيرهم من الناس.
كلما مررت بقدرٍ عسير أو يسير، لا تظنن أنه سيأتيك رسول من السماء، يُخبرك بالخطوات التي ينتظرها الله منك، الله يختبر كل واحد منا، وسط انشغالاته بكل الملهيات من حوله، ما يصنع؟ فأحسنِ الصُّنع، ما استطعت، يغنَم قلبك، ويسلَم.
لا تدع موقف عابر يمرّ عابر، ولا تجعله في قلبك جبلًا ثقيلًا، لكن لا تدعه يمضي دون أن تحتفظ بمعنى يذكرك به، هذه المعاني هي من ستصنع شيئاً فيك لاحقًا، شيئًا في قلبك. وحين يكتظّ قلبك بالمعاني الصادقة، فابشر بالخير الكثير!
بعد مواجهة نوح عليه السلام، لسخرية قومه، وتحمّله لجفاء قولهم، وصدّهم عن الدعوة، ماذا حدث؟ هل وحدها السفينة من استوت على الجوديّ؟ كلّ شيء في نوح قد استوى، هذا الجبل الذي لم يخبر الله تعالى، نوح عنه! فقد جاءه الأمر ببناء الفلك، ولم يكن يعلم بالنهاية! ومع ذلك ظل يكدّ ويعمل، والجوديّ، بأمرٍ من الله، ذلك الجبل الصامد، كان ينتظر سفينة نوح عليه السلام، حتى تستوي عليه.
ماذا حدث بعد استواء كل شيء في نوح عليه السلام؟ كان لابدّ من إعادة الأمور لمجاريها، هذا من إتقان الصُنع. نوح يسأل ربه عن ابنه! (وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود:45] حتى بعد استواء قلبك، واستقرار اضطرابه، قد تظل أُمنية صغيرة جدًا، لكن لأنها مُلحّة، فهي مزعجة! لكن لما تعرف أن تلك الأمنية، حتى وإن كان قلبك يهواها، ويرضاها، فإن الله، لا يرضاها، ينتهي الأمر فورًا، انظر للسماء، وقُل: عوّضني يا الله، واصرف قلبي عنه، واصرفهُ عني. فما كان من الله جلّ جلاله إلا أن قال لنوح عليه السلام، حتى يبدأ بداية صحيحة:
(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم)
قد يستوي قلبك، ويستقر، ويعود لسابق اضطرابه، فلا ريب، الله يعيد صناعة أجزاء أخرى فيك، وفي كل مرّة قد تكون قريبًا من الجوديّ ولا تدري، وأنت في مرحلة الصُّنع، تبتعد وتقترب، تستقر سفينتك ثم تتوه مرة أخرى، هذا شأنها في هذه الدنيا، المهم أن تظّل فطِنًا لرسائل الله لك، ولأقداره، للأناس الذين يقدّر أن تتعامل معهم في حياتك، لنفسك التي بين جنبيك، طباعك الحميدة والسيئة، والديك، كل هؤلاء على سفينتك! إسأل الله أن تستوي على الجوديّ، دائمًا، وألًا تظلّ الطريق.
لا يُمكن لأحدٍ أن ينتصر إلى الأبد، لم يحدث أبدًا أن ظلّت أمّة مُنتصرة إلى الأبد، لستُ خائفًا من أن ينتصروا مرّة وننهزم مرّة، أو ننتصر مرّة وينهزموا مرّة، أنا أخافُ شيئًا واحدًا، أن ننكسر إلى الأبد؛ لأن الذي ينكسر للأبد، لا يُمكن له أن ينهض ثانية، قُل لهم احرصُوا ألّا تُهزموا إلى الأبد.
إبراهيم نصر الله/الملهاة الفلسطينية[زمن الخيول البيضَاء].