الرئيسية قِنديلُ الحِكمَة يا صاحبيّ السجن

يا صاحبيّ السجن

بواسطة إيناس مليباري

♪ 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ياصاحبي السجن
مرّ وقت ليس بالقصير ، ولا هو بالطويل – مقارنةً بغيره – على وجوده في ذلك المكان ، لكن العُتمة والكثير من الغُربة هناك ، أشعرته بتباطىء انصرام الأيام ، على ماكانت عليه في السّابق .
ولأنّ ما مرّ به ، وقدّ الله له أن يعيشه ، ويُعاني كل التفاصيل الصغيرة ، التي لم تكن في الحُسبان يومًا ، لكن هذا ما حدث له ، فكان من العسير أن تمضي هذه المعاناة ، على قلب كقلب أيمن العتوم مرور العابرين ! كان ولا بدّ أن تُؤرّخ بشكلٍ أو آخر .
بعد قراءتي لرواية يا صاحبي السجن ، تفكرت لمَ قد يبتلي الله الإنسان بقدرٍ عسير جدًا ، قد تمرّ أيام القدر هذه عاديّة لغير صاحبها ، بينما يلوك صاحبها ما لا يعلم بمرارته إلا المانع المُعطي .
يبتلي الله صاحب الحكمة أحيانًا بما ابتلى خلقه الذين لم يؤثروا على أنفسهم ، لعلمه سبحانه بأنّ هذه التجربة ستخرج للعالم مُختلفة . صاحب الحكمة يُلهمه الله كيف يرتب كل أشياءه ومشاعره ، يعينه على رؤية الحقّ حقًا ، ويرزقه اتّباعه ، والباطل باطلًا ويساعده على اجتنابه ، وهذا ماكان عليه أيمن .
إلى جانب خروجه من تجربته المريرة ظاهرًا ،انسانًا لم يكن في الخاطر أنه سيتبدّل حاله ، فهو قد كتب للناس جانبًا كان غامضًا . يمنح الله لعبده القدرة على تحليل الكون حين يسعى لذلك ، أيمن مُنح ذلك ، سطوره تشهد له بذلك .تدور أحداث الرواية عن أيّامه وشهوره التي قضاها في السجن ، جرّاء أشعاره !
في ١٦ فصلًا في الرواية ، الواقعة في ٣٤٤ صفحة ، يحكي لنا بداية المُعاناة ، وتمتدّ حكاياته لتفاصيل دقيقة جدًا عن حقيقة السجن ، وواقع السُجناء ، والسجّانون ! ورغم أن أغلب ما ذُكر كان مؤلمًا ومريرًا ، لكن في كلّ سطر تتعجب أنّى لإنسان مثل عتوم أن يفعل كل هذا ؟!
ثمة آلام تقرأها ، رغم أنها ليست لك ، لكنها تستوقفك ، وتجدُ فيها شيئًا يعنيك ، فتقرر أن تمضي ولاتدري في أيّ المرافىء سيقف بك .
لم يتمكن العتوم من قراءة السجن وحياته فحسب ، بل تمكن-  بتوفيق من الله – ، أن يتعايش مع الوضع ، حتى اليوم الأخير له في السجن ، وهو يحاول !
كانت أكبر مخاوفه هو أن يفقد نفسه ! أن يتساوى عنده الليل والنهار ، فكان خوفه دافعًا له لأن يفعل شيئًا ، بل مجموعة أشياء .
القراءة والحُب هما اكسيره اللذان سخرهما الله ليكونان له الأنيس في غربته في القفار المُوحشات .
الإنسان القارىء في الغالب يحمل من الوعي ما لا يحمله غيره ، لذلك فقد علم العتوم أن مُجالسته لبعض السجناء هناك هو لوثة فكرية ، خشي على عقله ، لازمته الخشية زمنًا طويلًا ، لذلك فقد استمر في نهم القراءة من مكتبة السجن زمنًا أطول . ما يمتلىء به باطنك ، لن تدرك أهميته إلا حين تدلهمّ بك الخطوب ، وينفضّ من حولك .
في أجزاء كثيرة خطر على بالي أنه قد يبالغ هذا السجين ! تجده في مواطن كثيرة قد حدد لنفسه أهدافًا وهو في منفى عن الحياة والناس !
كان أول ما قرر فعله ، أن يجد شيئًا يقتات عليه ويعيش لأجله ، فاختار أن يجد سبيلًا لمعرفة الوقت تحديداً ، في ظل الظروف الصعبة ، وعدم وجود أي دليل يساعده لذلك ، لكنّه شق الطرق بذلك ، ولم يبدأ من حيث انتهى الآخرون . أصبح ينتبه لوقت الإفطار ، وتذكره بأن قراءة 30 صفحة من الكتاب تُعادل ساعة ، فكان يقرأ متتاليًا يحسب الساعات !
من جملة ما قرر فعله أيضًا أن يخسر وزنه الزائد ، شمّر لهذا الهدف ساعده ، وجاهد واجتهد ، وامتنع حين أقبلَ الآخرون ، فكان له ما أراد .
قرر أن يتعلم ، فكان صمته واستماعه لكل رُفقاءه السجناء بمختلف أحاديثهم ، خير مُعين لفتح آفاق جديد وعميقة .
تعلم قراءة الشخصيات بطريقة مُبهرة! كان ينتبه لحركات وسكنات كلّ واحد منهم ، ويتأمّله ، حتى يعلم مداخله ومخارجه ، فتجده في فصوله ، قد فكّك شخصيات رُفقاءه ، بسلاسة عجيبة . أفاده ذلك في اختياره لمن يُصاحب .
أفصح عن أمور شنيعة ، يكون من الطبيعي حدوثها في حياة السجن !
تكون العقوبات لمن لا يستحقها ، ولم يكن جُرمه إلا أنه أحبّ وطنه ! هذا ما رآه ورأيت .
ضرب السجّانون للسجناء دون داعٍ لذلك ! عدم السماح لهم لزيارة عيادة السجن إلا بموعد ، وحسب قوله فإن الموعد يأتيك بعد أن تكون قد شُفيت !!
استغلالهم غير الإنساني لفصل الشتاء لتعذيب السجناء بنفحات البرد القارصة !! ويمنع أن يوفرون لهم أغطية كافية ؛ اتقاء لما قد يصيبهم من ذلك الهواء ، أين هُم من قول عُمر رضي الله عنه :  ” البرد عدوّ ، فاستعدّوا له ” استعبادهم للأحرار الأبرياء هو الاستعداد الأمثل على ما يبدو ! الحنين ، وما قد يفعله بأصحابه ، وقد فعل أفاعيله في صاحبنا ، لكن تصدّى العتوم لهذه الموجات بذكاء . تجد في فصلٍ ما يصف الحياة والكون والناس كأسوأ ما يكون وفي صفحات قليلة مُجاورة تجد الأمل يُشرق من جديد . إنه ليس تناقضًا بل تحوّلات وتنقلات قلبه ، ولأنه يفقه كل ما يمرّ به من شعور إن كان شعورًا باليأس أو بالحب أو بالظلم ، تجده يسمح لذلك الذي غلبه ، أن يتنفس ، وهو بذلك يتعامل مع شعوره كطفله الذي يسمح له أن يلعب ما دام تحت ناظريه ، ولن يخشى عليه إلا في حال تجاوز طفله لمنطقة لم يُسمح له أن يذهب إليها ، وهذا ما كان يفعله مع قلبه ! يقترب من اليأس ولا ييأس ! يحّن ، يبكي ، يضعف ، لكنه يعاود الوقوف . وهذه منحة ربّانية أيضًا .

 

عاش بالإيمان ، رغم عدم تصريحه بذلك نصيًا لكنك ستجدُ ذلك جليّاً . إيمانه بأنه خُلق ليكون شاعرًا . إيمانه بأن العبرة بالخواتيم ، فما ابتدأه ، لابد أن ينهيه . لم يسمح لنفسه أن يخرج من السجن وأن يتخلى عن الذي هو مُؤمن به ! قرر أن يتجرع المعاناة وسيهونها الله بالرضا ، على كل حال تطلب الأمر أن يقنع نفسه أن ما فعله صوابًا ، ظل يردد ذلك كثيرًا .
إيمانه قاداه لأن يُصدر أشعاره لخارج السجن ، بشتّى الوسائل . الإيمان يمنحك الرسالة التي خُلقت لأجلها ، تذكر قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ” قيمة كلّ امرىء ما يُحسن ” .

تعلّم كيف يصنع من كل قرار إداري ، فُرصة له ! قد يكون ذلك مُبالغاً فيه ، لكن تخيل لو أنك انصعت تمام الانصياع ظاهرًا وباطنًا ، لكلّ ما يُفعل بك ! دون أن تحاول صنع درع ولو كان لا يراه غيرك ، لكنك تحتمي به من أشياء كثيرة ، وأول هذه الأشياء : نفسك ، تحمي نفسك من نفسك ! 
فإذا كان في زِنزانة انفرادية ، صنع لنفسه عالمًا رحبًا رغم ضيق المكان والحال ! وإن كان في زنزانة يشاركه مجموعة سجناء ، فقد صنع عالمًا مُغايراً لكنه يتفق مع ما يريد ، كان يسير في خطوط ودوائر ، لكنه لم يحدث وأن تقاطع مع نفسه ، ذلك لأنه يُدركها جيدًا .قد نكون سجناء فكرة ، أوهمنا أنفسنا بها ، قد نتوهم أننا أحرار ! لأنا نستمر بالذهاب والإياب أنّى شئنا ، والروح مُقيّدة !  

تعلم كيف تكون حُرّاً . تعلم أن تكون العتوم أحيانًا !

You may also like

2 تعليقات

لينة محروقي 10 فبراير 2015 - 9:43 م

“ما يمتلىء به باطنك ، لن تدرك أهميته إلا حين تدلهمّ بك الخطوب ، وينفضّ من حولك”
هنا وجدتُ أعظم درس وحكمة ومعنى أهدته لي هذه الرواية!
سواءٌ عليك إن كنت تنعم في الرخاء حاليًا أم كنت تدور على رحى الشدة!
لا يهم!
صدقني هذه اللحظة ستمضي، والعواقب تأتي دائمًا لصالح ما بداخلك!
نعم، تحسس ما بداخلك..
اللهم أصلح لنا سرائرنا..

ممتنة لمشاركتك لنا مراجعتك هذه الرواية كما أنا ممتنة لكل ما بيننا يا صديقتي:)

Reply
إيناس مليباري 11 أبريل 2015 - 5:24 م

صحيح لولو
اللهم آمين
سعيدة لحضورك 🙂

Reply

اترك رداً على إيناس مليباري إلغاء الرد