الرئيسية كَوبُ حَيـاة و تمضي السنونُ و يمضي القدَر

و تمضي السنونُ و يمضي القدَر

بواسطة إيناس مليباري

 

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

close

 

ربمّا كان الابتلاء ، هو الشيء الأكثَر حضوراً في البشر ، فنحنُ مُبتلون في علاقتنا مع أنفسنا ، وفي علاقتِنا مع غيرنا ، كما أننا مُبتلون في كل أحوالنا ، مهما كانت مُقبلة أو مُدبرة – د. عبد الكريم بكّار

 

( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) ، يقول ابن العبّاس في تفسيرها :

أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة ، والرخاء ، والصحة ، والسقم ، والغنى ، والفقر ، والحلال ، والحرام ، والطاعة ، والمعصية ، والهدى ، والضلال.

 

إننا نُدرك وتُدرك عقولنا جيداً ، أنّ الإنسان خُلق في كَبَد ، وأننا مُبتلون أينما ولّت قلوبنا ، لكننا حين ( نقع ) في الابتلاء ، يهرب ادراكنا بعيداً ، حتى إذا لهثنا في البحث عنه ، عن العقل الذي كان يُخبر الناس بالابتلاء ، لن نُفلح في إيجاده ؛ ذلك لأن الإنسان حين يكون في المصيدة ، يجهل سبيل النجاة .

ارتبطتْ صورة الابتلاء بالشر دائماً ؛ وإنني الآن أقول ( دائماً ) وأعنيها بكل ما يحمله الدوام والاستمرارية من معنى ، لم يحدث أن سمعتُ بأحدهم يحدثني عن ابتلاء الله بالخير ، أنا لم أفعل ذلك أيضاً .

رغم أنّ الشرّ بيّن ، والخير كذلك ، كما الحال مع الحلال والحرام . لكننا – وإني حين استخدم نا الفاعلين فإني وللمرة الثانية أعنيها بكل ما تحمله الـ نا من جمع لكافة البشرية – لازلنا غير قادرين على الفصل بين الخير الذي يمنحهُ الله للإنسان ، فيكون حقٌ له في أن يعيشه ، وبين الخير الذي يمنحه الله للإنسان أيضاً  ، لكنه لا يفطنُ للخير الذي جاءه من حيثُ لا يحتسب . كالسمكة التي ترفض العيش في الماء العذب ، وتنعَم بالمالح . كلاهما ماء ، كلاهما خير .. لكنها ترفض الخير الأول ، غير قانطة ، هي تستعذبه لكنها تعلم بأنّ الخير في هذه الحالة لا يُلائمها ولن يعذّبها الله جزاء ما فعلتْ ، فشكر النعم ، قد يكون بأن نُعرِض عن بعضها . يكون ذلك بغير القنوط أو الاعتراض على ما كتبه الله لنا ، لكننا نُعرض عنه لأننا نشعرُ بأن هذا الخير تحديداً ، لن نستطيع أن نُديمه ، وأن نرعاه حق رعايته ، سيكون شُكرنا لله على هذه النعمة أبتراً ؛ شكراً لفظياً لا يتبعه ما يُثبت الشكر والحمد . لذلك فإننا نبتعد ونسأل الله أن : ( يعوضنا خير ) .

هل يعوض الله كل الذين يتركون ( الخير ) الجميل في حياتهم ؟ ، الخير في كافة صوره ، شخصاً كان أم رغبة أوشكتْ على أن تتحقق ، الخير أي شيء يخطر على بالك الآن . الله يعوّض الإنسان الخير الأجمل في ظرفٍ واحد : إذا ترك الأمر ، تركه لله ، من أجل الله ، وقلبُ ذلك التارك للخير الذي يرغبه لكنه ما عاد بمقدوره أن يُتمّ الأمر معه ، يُردد الذي ردده يعقوب عليه السلام : (  فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) هو العالم بالأمنيات التي كان بإمكان ذلك التارك أن يبنيها ماشاء الله له أن يبنيها ويُشيّدها ، لكنّه أودعها في دعاء وأطلقها . وهمس في أذنيها قُبيل ذلك : سيأتيني الله بك .

الترك لله ، نُدركه كما أننا نُدرك الكثير من الأشياء التي لا نفعلها في الغالب . لم يكن الترك أن تبتعد عن الأشياء أو الأشخاص الذين تحبهم ، ثمّ تزعم بذلك بأنك تركته لله ، الترك الحقيقي هو اطلاق سراح من أو ما تحبّ من قلبك ، ألا تكون الأسير وأنت حرّ بعينِ من حولك . أن تترك الشيء أو الشخص ، وتمحُ كل ماقد يجعلك تعود يوماً للأشياء المتعلقة ، ويندب قلبك – دون أن تتلفظ بذلك – على ما حدث . الترك لله هو ألا يسخط قلبك . إنك حين تمحوها ، فإنك تترك مكاناً خالياً ، يوقن بأن ماكان له فسوف يعود ولو بعد حين ، لذك فإنك تتركه وفتيل الأمل يجعل المكان الفارغ ، ممتلئ .

قال أحدهم : ( ما من أحدٍ يترك شيء لله عزّ وجل ثمّ أحسّ بفقده ) ، الله يسنُد المحتاج ، المحتاج التارك لله ، متألم القلب ، ما يفعله الله هو تقوية شَوكة هذا الإنسان ، يزيد من صلابته ، يزيد من إيمانه بطريقة لا يحسّ بها من حوله ، لكن صاحب الحاجة ، يفطنُ لها . يجيء اسناد الله للمحتاج في صور لا يعلمها ، وقد يصل أخيراً إلى حلّ أُحجية قضاء الله في وقتٍ متأخر ، بعد أن يُصبح قلبه ، قوياً .

قد يجيء عوض الله له ، بنفس الشيء الذي بنظر الإنسان هو فاقدٌ له ، وبرؤية الله هو تفويض للأمر برمّته . وقد يجيء العوض في صورة مختلفة ، في شخص أو شيء آخر ، لا يشبه السابق ، يأتيك العوض ماحياً لك كل شيء كان يزيد وهن قلبك ، وهناً . يأتي العوض الجميل حين نكفّ عن انتظاره ، ومُطالبة القلب من الله – تعالى شأنه – بأن يعجّل في قضاءه ويأتي بالعوض – بديل المفقود . 

شعار تاركو الأشخاص والأشياء لله هو : ( إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ، يقول الطبري في تفسير هذه الآية  :

( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون )
( وأخيه ) يعني بنيامين – أخ يوسف عليه السلام – ( ولا تيأسوا من روح الله ) ، يقول : ولا تقنطوا من أن يروح الله عنا ما نحن فيه من الحزن على يوسف وأخيه بفرج من عنده ، فيرينيهما ( إنه لا ييأس من روح الله ) يقول : لا يقنط من فرجه ورحمته ويقطع رجاءه منه ( إلا القوم الكافرون ) ، يعني : القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه .

آخر ما يستحق الإشارة إليه هو أن الإنسان حين يُدرك بأن الله ابتلاه بالشر أو الخير ، يظن في بادئ الأمر بأنه ( وقع ) في الابتلاء ، لكنه سيدرك ولو بعد حين بأنه ( صعد ) وبأن من لم يُبتلى هو الذي ( واقع ) في هذه الحياة . 

وهاقد أتــــــاني زمانٌ جديد ** و أصبحتَ مني كـــــــــطيفٍ عَبَر

نسيتُ الهــــــــــمومَ و ذكرى الجراح ** ومزقتُ فيه بقايا الصورْ

هجرتُ المـــــــــــــــكان أيا صاحبي ** و صارَ فؤادي نديمُ القمًر

فـلا الشوق يعبث في مـقلتي ** و لا الفكرُ يحيي ليالي السَّمَر

لقـد شتَّتَ البَــــــــــــــينُ أحلامَنا ** وجفَّتْ عروقُ اللقا المنُتظرْ

ستفنَى حــــــــــــكايا الحنين الطوَال .. و لن يــــبقَ للوجدِ أيُّ أثرْ

و لكنني ســـــــــــوفَ أحيَا أنا ** عصيًّا إذا ما الحنين انهمَـــــــــر

سأمضي وحيداً شديدَ القوَى ** و تمضي السنونُ و يمضي القدَر

 

* ( سأظل أذكركم )

 

You may also like

5 تعليقات

T@rek 12 يونيو 2013 - 10:57 ص

قرأت التدوينة .. ثم أعدّت قراءتها … هناك شيء مفقود !

الابتلاء بالخير و الشرّ حق … و انحصاره في الشرّ في أذهاننا حقيقة لا خلاف عليها

أما عن السمكة و ماءها , فالماء عندها كالمال لدينا … أحدهما من مصدر مشبوه , و الآخر من الحلال … فهي تدع ما لا يناسبها لله , و تقبل بالعيش في الحلال و إن كانت الحياة فيه شاقة أكثر .. ( و حياة البحر أشقّ من النهر )..

لم يصلني ما تودين قوله يا أخيّتي ..
أو ربما هو علمي القاصر الذي – على حسبه – أرى أنه لا يكون هناك نعمة متروكة و لا خير متروك …
و الترك يكون لشر ٍ نعلمه أو لا نعلمه ( كفتاة تركت شابا ً تحبه , لعلمها بأنه ربما لا يناسبها كما تتصور هي ) …
أما الخير الذي نعلم أنه خير , فأظن – و الله أعلم – أن تركه هو جحود ٌ بنعم الله ( أعاذنا الله و إياكِ منه ) ..

و أعود فأقول , لربما أنا من يصله المعنى تماما ً 🙂

و ما زلت أرى في تدويناتك ِ نضوجا ً يسعدني / في زمن ٍ سخُفت فيه الأمور .. / , فشكرا ً .. ^-^

Reply
إيناس مليباري 15 يونيو 2013 - 4:20 م

أهلاً بك :”)
لعل المثال التالي يوضّح فكرة الخير المتروك ، وقِس على ذلك بقية الأمور ..
عندما يقدّم لك أحدهم المزيد من الطعام ، والذي هو ( خير ) من الله لك ، لكن عدم قبولك
له لا يعد جحوداً ، حيث أنك تعلم يقيناً بأن المزيد من الطعام مع المعدة الممتلئة سيؤدي إلى رميه !

ومرحباً بك وبكلماتك التي تسعد من يقرأها :”)

Reply
T@rek 17 يونيو 2013 - 2:22 ص

الفكرة عن طريق المثال , قد وصلت بسلام 🙂
باركك الله و بارك في عملك..

Reply
علي العمري 5 يوليو 2013 - 7:54 م

الابتلاء -في تقديري- محايد، فلا هو خير ولا هو شر وإن كان بحسب الصورة الظاهرة موصوف بأحدهما ولا بد، لكن الإنسان هو من يستطيع بما أعطاه الله عز اسمه من قدرة على الاختيار إخراج الابتلاء عن صورته الظاهرة إلى عكسها من خلال تعاطيه معها…
على سبيل المثال: من ابتلي بإعاقة، هذا الابتلاء ظاهريا شر، لكن صبر المؤمن عليه ورضاه بواقعه وسعيه لتحسينه ونهوض بنفسه والإقبال على استكمال ما فيها من فضائل؛ قد يجعل هذا الابتلاء خيرا، وبالعكس من ابتلي بالمال، والمال خير، فأنفقه في غير وجهه واستعان به على ما يغضب ربه ويجلب له الأمراض والمتاعب من ملذات زائلة؛ هذا كله سيحيل هذا الابتلاء من خير إلى شر، وهكذا…
والمفترض أن يسأل المسلم الله السلامة؛ فإن ابتلي صبر وتعاطى مع ما ابتلي به كما ينبغي للمؤمن أن يتعاطى، وقد روي عنه صلى الله عليه وعلى أزواجه وذريته أنه قال: يا أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا.
وعلى الابتلاء بالعدو، قيسي كل ابتلاء.
ودمت موفقة.

Reply
إيناس مليباري 8 يوليو 2013 - 6:02 ص

وهو كذلك ، فالمعنى الذي نضيفه لأي قدر من أقدار الله هو من يصبغ القدر بالخير والشر
كلامك الطيب مُبارك حفظك الله :”)

حين كتبتُ التدوينة كانت الآيتين التاليتين نُصب عيني ، وبناء عليه كانت هذه التدوينة :
( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )
( وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون )

مشاركتك مُثمّنة دائماً ، جزاك الله خير

Reply

اترك رداً على T@rek إلغاء الرد