الأيام

بواسطة إيناس مليباري

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 ولأول مرة أشعرُ بأني أقرأ كتاباً مضت عليه السنون إذ أن هيئته ولون الورق الذي أصبح عليه ، ملمس الورق الخشن واصفرار أطرافه جعلتني استمتع بما أقرأ ! كتاب الأيام عبارة عن 3 كتب وهو السيرة الذاتية للأديب المصري طه حسين ، ما يميز الكتاب بأنه لم يسرد لك الأحداث سرداً مملاً وإنما حكا لك حكايته بضمير الغائب فلم يستخدم ضمير المتكلم بقوله أنا أو كنتُ وإنما استعاض ذلك بقوله لقد كان الفتى ، وتارة يصفه بأنه : لقد كان صاحبنا . قضيتُ ما يقارب الـ 12 يوماً في صفحاته مستمتعة كأكثر ما يكون الاستمتاع . الآن أدركتُ لمَ قيل لي : إن من يبدأ قراءته للسير الذاتية بقراءته لسيرة طه حسين فقد زَهِد في البقية! شكراً الشيماء على إعارتك الكتاب : )

عاش طفولته في صنُوف من الخطوب التي واجهته ، كان الشقاء عنوان حياته كما كان يصفها ويُكررها في أسطرهِ ، شبّه نفسه بأنه كالثّمامة في طفولته – الثمامة نبات ضعيف يُضرب به المثل لما هو هيّن المُتناول – عاش هذا الضرير في أسرة فقيرة إلى حدٍ ما ، بين إخوة مبصرين . يحدّثك هذا المكفوف بأنه كثيراً ما كان يمتنع عن الأكل بالمعلقة لأنه لا يُحسن استخدامها ، تعود أن يختلي بنفسه ويأكل فينسكب الطعام على ثيابه مَاشاء الله له أن ينسكب ! ولا يجد حرجاً في ذلك إلا بحضور أحدهم . أتمّ حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره ، لم يكن يهوى أن يذهب للكتّاب بشكل يومي ، إذ أنه كان منذ طفولته يهوى سماع القصص وبعض الشعر . نوديَ بالشيخ وهو فتى قصيراً نحيفاً شاحباً زريّ الهيئة لكنه على كل حال لمْ يسعد بهذا اللقب إذ أن قلبه كان شغوفاً بأن يرتدي العمّة والجبّة والقُفطان ولم يظفر بهم آنذاك .

حدّثه أبوه ذات مساء : ” إنّي لأرجو أن أعيش حتّى أرى أخوكَ قاضياً وأراكَ صاحب عمود في الأزهر ” بقيتْ هذه الكلمة تُشعره بأنه يودّ لو أن يتحقق ذلك قريباً . ولأنه كان صغير السن فلم يكن مسموح له بأن يُسافر حيثُ الأزهر برفقة أخيه . أثناء الأشهر والسنون التي قضاها انتظاراً مرّت به شتّى الأمور ، من بينها وفاة أخيه إثر انتشار مرض الكوليرا ثم وفاة آخر كان هذا الحدث كما وصفه بأنه كالصاعقة عليه فجعلته يكفّ عن الميل لعلم الشعوذة والسحر اللذان كان مغرم بهما آنذاك ، ولعلمه بقصور أخيه المتوفي بأمور الصلاة والصيام عاهد نفسه أن يصلي كل فريضة مرتين ، مرة لنفسه والثانية لأخيه ، استمر ذلك شهراً أو يزيد . كان يفعلُ ذلك حباً لأخيه مُخفياً الأمر عمن حوله .

انصرمتْ الأيام وسافر حيثُ الأزهر برفقه أخاه الذي مرّ عليه زمن هناك ، فكان هذا الأخير يعتني بشؤون أخاه الضرير ، لكن الفتى كان يشعر بالعزلة والوحدة ، إذ أن أخاه منصرف مع أصدقاءه إما للاستذكار أو لاحتساء كوب الشاي ، فكان الفتى يلزم حُجرته غير أن مسامعه تجاوزت حدود الحجرة وأصبحتْ تُتابع ما يتندّرون به أصدقاء أخيه . واستمر إحساسه بأنه وحيد إلى أن شاركه ابن خالته الحجرة والذي كان رفيق طفولته ولازال . وصف لنا حالته بعد مقدِم صديقه وقريبه هذا بأنه :  عاش جهراً بعد أن كان يعيشُ سراً .فأصبح أنيسهُ وجليسه يحضرا معاَ الدروس في الأزهر .

إلى الآن كل شيء راكد في حياته ، الرتابة تقتلهُ لكنه لا يتحدث بذلك لأحد ، فهو كثير الصمت ، يُكثر التفكير حين يخلو بنفسه . حتى إذا أتمّ عامه الأول في الأزهر وجاء الصيف عاد لأهله في مصر فكانت النقلة في حياته ولأول مرة . . قرر أن يخرج من صمته ، أن يجعل من حوله يتعرفون على هذا الضرير كما هو من الداخل لا كما يرونه وكيفما صوروه بأهوائهم ! أصبح يردّ على من حوله فلم يعد محطّ شفقة لمن حوله ، استنكر ذلك أهله ومن حوله لكنّ ذلك لم يُثنيه من أن يعود لقوقعة الصمت تلك . نعته الكثير ببعض الألفاظ السيئة إذ أنهم يرون بأن الأزهر بزعمهم أفسدت ابنهم ! عاد للأزهر واستمر في الرد على المشايخ كما كثرتْ أسئلته حول الدروس التي يتلقاها منهم ، وعلى إثر تغيّره هذا طُرد من الكثير من الدروس كما نعته البعض بأنه صاحب الأسئلة الغبية !

ولأنه كان كثير الميل للأدب لكنّ أحداً لم يلحظ ذلك قرر حضور بعد الدروس عن الأدب وحدث ما أراد . لكنّ أبوه كان يتمنى أن يكون أزهرياً ، كان يحدّث الأسرة عن ابنه هذا الشاذ الغريب بفخر وإعجاب . لقد فرضت الحياة على أمثاله من المكفُوفين الذين يريدون أن يحيوا حياةً مُحتملة إحدى الأمرين : إما الدرسُ في الأزهر أو أن يذهب للمآتم في البيوت ويقرأ القرآن ! وبعد دخوله للجامعة هُناك تغّيرت حياته كُلها تغيراً كاملاً . أصبح قريباً مما يحب ويهوى ، يتلقى علوم التاريخ من أساتذة إيطاليين وغيرهم . سُخّرت له الظروف ليكتب في إحدى الجرائد إذ كانت الجريدة بابُ الخير الأول لممارسة هذا الأديب للكتابة .

بعد انتسابه للجامعة بدأ يحيا حياة الأدباء والتي كما وصفها :

كانتْ حياة الأًدباء في تلك الأيّام مزاجاً غريباً من مُتعة تختلس بين حين وحين ، ومن بؤسٍ نفسي يفرضونه على أنفُسهم ، وإن لم تفرضُه عليهم الحياة . فالأديبُ عندهم وعند غيرهم في تلك الأيّام بائس بطبعه ، طامح بطبعه إلى النّعيم ، يتخذّ البؤس لنفسه عشيراً ، ويحملُ النعيم لنفسه حلماً .

وبعد مرور الأعوام منذ دخوله الجامعة أصبح كاتباً ، رغم أنه أثناء الأعوام العشرة الأولى من كتابته في الصُحف لم يكتب إلا حباً ورغبة فيها ، لم يكسب بها درهماً ولا مليماً . حين تبحّر في الجامعة وعلومها أدرك بأنها وسيلة بعدما كانت تعني له الغاية والعيد !  كان هذا بعد تعلمه لأساسيات اللغة الفرنسية ، تاقت نفسه للأدب الفرنسي . . وحدث ما كان بأن سافر إلى أوروبا بعد كثير عناء ومشقة بسبب الحروب في فرنسا آنذاك وعدم رغبة الجامعة في ابتعاث ضرير مثله لكن رسائله للإدارة وبأنه أهلٌ لهذه البعثة جعلته يحظى بتلك الرحلة حتى أنه يذكر حديث أبيه عنه ذات شجن : “ لله في خلقه شؤون ! هذا أضعفُ بنيّ وأخفهم علي حملاً وأقلهم نفقه ، قد أُتيح له ما لمْ يُتح لإخوته الأقوياء المُبصرين الذين كلفوني من النفقة ما أُطيق وما لا أُطيق ” .

ورغم هذا كله إلا أن حديث أبو العلاء الضرير أيضاً كان يذكّره بآفة العمى ، حيث كانت كتابات أبو العلاء شديدة السواد فكان مما قاله بأن : العمى عورة ، فاستر عورتك !  كما أنه تذكر عجزه إلا بقيام أحد آخر بشؤونه وفي هذا قال أبو العلاء : الرجل الكفيف مُستطيع بغيره . أثناء إقامته في فرنسا وقد عَنون هذا الفصل بـ : المرأة التي أبصرتُ بعينيها : ) تحدث كيف أن صوتها العذب أثناء قراءتها للكتب له كان تؤسره فأصبحت هي ملاذه الآمن من حيثُ لا تدري ، إذ كان يُكثر استرجاع صوتها إذا ما عاد لوطنه ثم يهيم شوقاً لذلك الصوت العذب الذي يعيده لتوازن نفسه واستقرارها . تمكنتْ صاحبة الصوت العذب من إخراجه من عُزلته وشقاءه .

كانت تُحدّثه عن الناس فيلقي في روعه أنه يراهم وينفذُ في أعماقهم . وكانت تحدّثه عن الطبيعة فتشعره بها شعور من يعرفها من قُرب . كان تحدّثه عن الشمس حين تملأ الأرض نوراً ، وعن الليل حينَ يملأ الأرض ظُلمة ، وعن مصابيح السماء حين تُرسل سهامها المضيئة في الأرض وعن كثير جمال لم يُحدثه أحد من قبلها ، فكان يُخيّل إليه أنها تكشفُ له عن حقائق كانت مُستخفية عنه . وشيئاً فشيئاً أصبحتْ ذات الصوت العذب أنيسه في تلك الغربة ، فبدأ يشعر بضرورة مصارحتها لما يشعرُ به نحوها دون التواء ، فما كان منها إلا أن أسرفتْ في الصمت ثم أخبرته أن يُمهلها حتى تعود له بجواب إما يرضيه أو أن يكتفي بأن تكون صديقة له . مرت الأيام فما كان جوابها إلا أن وافقت على أن تتخذه زوجاً لها .

قضى الخطيبان أيامهما في العكوف على القراءة والتحضير لامتحاناته ، كانت تقرأ له وكان يحفظ من أول مرّة يسمع بها الحديث . وبعد مرور الأشهر أصبح زوجاً لصاحبة الصوت العذب وبعد أيام قليلة من زواجهما استنأفا معاً استعداده لدخول الامتحانات النهائية لتقديم رسالته . يصوّر لك في أسطره في الحديث عن زوجه كيف أنها كانت خير معين له ، تشدّ من أزره إذا ما ألمّت به الخطوب كما أنها تردّه للطريق المستقيم حين ينحرف عن ذلك ، كيف أنها تحمل طفلتهما الصغيرة أمينة بين ذراعيها وتقرأ له دروسه . حدث أن اختار موضوع تاريخ اليونان في أحد أعوامه ، لكن كيف له أن يرى طبيعة اليونان وتضاريسها ؟ لكن زوجه لم تجد صعوبة  في ذلك غير أنها أكثرتْ الاجتهاد ليحظى زوجها بما لم يحظَ به غيره . حين أرادتْ أن تُفهمه الوصف الجغرافي لبلاد اليونان ، أخذتْ قطعة من الورق وصاغتها في شكلها على نحو ما صاغت به طبيعة تلك البلاد ، ثم أرادت أن تصوّر له ما في هذه البلاد من الجبل والسهل الذي يضيقُ حيناً ويتسع حيناً فصوّرت له ذلك بشكل بارز وأخذت تمرر أصابعه على تلك التضاريس ، وما زالتْ تفعل ذلك حتى فهم ذلك حق الفهم وأعاده عليها فاطمأنّت إليه . حتى أنه أثناء تقديم بحثه طلب عرض الخريطة للحضور ! استنكر ذلك البعض لكنهم وضعوها بناء على طلبه فأصبح يشير للجهات دون أن يُلجلج أو يخاف ، فأكثروا له كلمات الثناء والمديح . وفي نهاية الأمر اجتاز وحصل على شهادته للدراسات العليا .

أهدي هذه التدوينة للصديقة التي طلبت مني أن أكتب عما قرأتْ . . سوسن أمين : )

You may also like

3 تعليقات

سوسن امين 13 يونيو 2012 - 7:21 م

كتاب الأيام كان مقررا علينا في الدراسة في المرحلة الثانوية ولكن لما قرأته بعدها أدركت مدى روعة أيام طه حسين وأعجبني جدا إصراره وإرادته القوية للوصول إلى ما يبغي رغم العمى والمشاكل التي صادفها في حياته, من أجمل أنواع الأدب التي أحب جدا قراءتها هي السيرة الذاتية, لا أمل أبدا من قراءة حياة الآخرين واقرأها كأني أراها بعيني وأجد نفسي خرجت من زمني وأعيش معهم أزمانهم وحياتهم بكل تفاصيلها,شكرا جزيلا على هذه الهدية (التدوينة),بارك الله فيكِ يا إيناس

Reply
عُلا وتد 15 يونيو 2012 - 12:13 ص

اختيار موفق 🙂

بصراحة اذكر انني كنتُ خائفة من قراءة هذا الكتاب بالذات! لما يحمله اسم طه حسين من هالة..
ولكن واجب دراسي في المرحلة الاعدادية ارغمني على قراءة الجزء الاول من السلسلة..
ولكنني لم استطع التوقف! وقرأتها كُلها..

اكثر ما احببتُ هو طريقة السرد واستعمال الضمير الغائب!..
كما ان مواقفه الحياتية والشفافية في الحديث علمتني الكثير!

احببتُ مدونتك.. وتدوناتك اللطيفة 🙂
ولو من بعيد؛ فأنا متابعة لك 🙂

Reply
إيناس مليباري 16 يونيو 2012 - 5:15 ص

سوسنتي ؛
ياسلام كتاب كهذا مقرر ؟!
حقيقة لَكم كنتُ أتمنى بكتابٍ غير كتب الدراسة ليكون مقرراً علينا ، خصوصاً الأدبية منها : )
كما أنكِ ” تستاهلي أكتر من كدا ” : )

عُلا :
حتى أنتِ قُرّر عليك ! : )
حقيقة أغبطكما على تلك الفترة ، الدراسة برفقة عميد الأدب العربي لها وقع مختلف
شكراً عُلا على حضورك وترانيمك التي طُربت لها كثيراً : )

Reply

اترك رداً على عُلا وتد إلغاء الرد